عن الانتحار والاكتئاب أتحدث
د. خضر محجز | مفكّر فلسطيني
صديق وجّه إليّ هذا السؤال: ما حكم الشرع فيمن مات منتحراً، وهو يعاني من اضطرابات نفسيّة؟
فأقول بحول مولاي، فإن شاء ارتضاه فكان حكمَه الذي أُفهِمْتُه من كتابه وسنة نبيّه، وإن لم يَشأْهُ كان خطئي وتقصيري وقلة حيلتي. ودين الله بريء من ضعف مداركي:
أقول بحمد الله:
لا أعلم في دين الله ـ بعد الشرك ـ أعظم جُرماً من القتل: قتل النفس، وقتل الآخرين. لأن الله خلقك ومنحك الحياة، وأمرك أن تسعى فيها بقدر ما تستطيع، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق/6).
فالحياة كدح وشقاء، لأن الله شاء ألا يجعل لأوليائه راحة إلا عنده. ألم تر أنه ألهم نبيه أن يقول: “الدنيا سجنُ المؤمن وجنة الكافر” (صحيح مسلم)؟
وإن الهروب من هذا الكدح، إنما هو من التولّي أمام العدو عند الزحف. أليس الشيطان عدواً يدعونا إلى عذاب السعير؟ فلم نلبي نداءه بدل أن نحاربه، وقد قال الله لنا: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ (النساء/29)؟
ألا وإنه ما من منتحر إلا وقد قاسى ألماً، ولكن منذ متى كان الألم مبيحاً للهروب من وعد الله؟ ألم نر مقاتلاً يقاتل أعداء الله، ثم يُصاب بجرح فيهرب من جرحه بقتل نفسه، فيحكم رسول الله بأنه في النار؟ وقد صح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين روى ما شهده مع رسول الله يوم خيبر أنه قال:
“شَهِدْنا مع رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَيْبَر، فقال لرجل ممن يُدْعَى بالإِسلام: هذا من أهل النار. فَلَمَّا حَضَرَ القتالُ، قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتالاً شديداً، فأصابتْهُ جراحة. فقيل له: يا رسولَ الله، الذي قلتَ له آنفاً: إِنَّهُ من أهل النار؛ فإِنَّهُ قد قاتل اليوم قِتالاً شديداً، وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِلى النار… فبينما هُمْ على ذلك، إِذ قيل له: إِنه لَم يَمُتْ، ولكن به جِراحٌ شدِيدةٌ. فلما كان من الليل، لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه. فأُخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الله أكبرُ، أَشهد أَنِّي عبد الله ورسوله” (متفق عليه).
لهذا استحق هاربٌ من وعد الله نذير رسول الله حين قال:
“مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهو في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً. وَمَن تَحَسَّى سُمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً. وَمَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً” (متفق عليه).
ألا وإن كل تزيين للانتحار كبيرة من الكبائر، فمن آمن بأن الانتحار حلال ـ بعد هذا البيان ـ فقد صار على خطر عظيم. وقد رأيت بعض من يتعاطفون مع المنتحرين، ولا يتعاطفون مع أنفسهم أن يلقيهم الله ـ بتكذيب رسوله ـ في جهنم.
تبقى مسألة المرض
وقد علمنا أن ليس على المريض حرج. كما علمنا أن من فقد وعيه، فصار مجنوناً لا يعقل، ولا يفقه من الحياة ما يضره مما ينفعه، حتى سقطت عنه الصلاة، أو بلغ من الجنون أن يقذف صغيره من يده من فوق طوابق عليا ـ وما شابه ذلك ـ فقد علمنا أن مثله غير مكلف بتكاليف الشرع.
وعلى ذلك، فإن أصيب مريضٌ باكتئاب شديد، أدى به إلى ألا يعقل مما حوله شيئاً، فصار مجنوناً كما وصفنا، ثم قتل نفسه، فإني أرجو له أن يكون ناجياً من وعيد رسول الله. إذ لا وعيد لمجنون.
والخلاصة من كل ذلك: أنني لا أعلم ما هو الاكتئاب، ولا أريد أن أتلقاه من أفواه الفيسبوكيين العظام، ولكني أقول عموماً: بأن الاكتئاب إذا وصل حد أن لا يفقه المكتئب وجوب أن يصلي ـ وكان يصلي ـ أو لا يعرف ما حوله، حتى إنه لَيُلقي طفله الوحيد من يده في النار.. إذا وصل هذا الحدَّ، فقد ظننته غير مسؤول عما يفعل بنفسه، فيذهب إلى الله غير قاتل نفسه، ويلقاه على ما تبقى له من الأعمال إن خيراً فخير، وإن غير ذلك فهو غير ذلك.
أما من يجعل المنتحر شهيداً، فلا أراه إلا وقد أعظم الفرية على الله.
قلت هذا، فمن لم يعجبه هذا، فلا يغضب، فلديه شحرور وأحلاسه.
والله أعلم