خواطر في الحجر الصحي
د. أحمد رفيق عوض | أكاديمي فلسطين
واخيرا تمكن مني هذا الفيروس المفزع، الذي شل العالم كله، و وضع البشرية أمام خيارات وسيناريوهات بالغة الغرابة والخطورة .
الفيروس اللغز في ظهوره وفي سلوكه وفي انتشاره وفي تحوله وتحوره، يكشف فينا ألغازا أخرى، إذ أن أجسادنا هي الغازنا أيضا، فليس كل جسد يبدي ذات الأعراض، وليس كل جسد يتأثر بذات الدرجة، أما أنا فقد كانت رحمة ربي واسعة إذ أن أعراض المرض كانت خفيفة ومحتملة، فيما لحق بأخرين غيري أعراض مخيفة أدت إلى الموت في بعض الأحيان .
حشرني المرض إلى الحجر الصحي، و فجأة، من حياة صاخبة ومليئة بالتفاصيل والحماس والانشغال إلى غرفة صامتة تمتلىء بالأدوية والأشربة، فجأة تنسحب من الانشغالات لتكتشف أنه يمكن الاستعاضة عنها بأقل الأشياء، فجأة يتغير طعم الحياة، وشكل الطموح، ومعنى الرغبة، وينفجر في الصدر السؤال الكبير، ما الذي فعلته حتى الآن، هل كان ذا جدوى؟!
ولأن المرض – خصوصا هذا المرض – يجعلنا نمشي على حافة الدنيا، فإن الأسئلة الوجودية الكبرى تنطح الدماغ صباح مساء، إذ أن هناك رحلة أخرى، رحلة هي الأبقى والأطول والأكثر حقيقية، عندئذ لا بد من الاستسلام لما أبلغنا به الله من خلال رسله وكتبه و كونه وباقي آياته التي تفوق الخيال وتتجاوز التصور.
في هذا الحجر الصحي ليس معي سوى قلبي وأسئلتي وإيماني، إذ أن هذا الحجر يضعك أمام ضعفك وهشاشة جسدك وغموض عدوك ولا شيء سوى الرغبة في البقاء ومحاولة الدفاع بكل ما تملكه .
خلال هذا الحجر، الذي لم ينته بعد، فقد اكتشفت كم أضعت من فرص، و كم فشلت في أن أكون ما أريد .
خلال هذا الحجر اكتشفت أن التواضع قيمة عليا، فلا أنا زعيم أو صاحب نظرية أو حتى مدير مدرسة ثانوية .
خلال هذا الحجر اكتشفت أن (الستر) هو قيمة لا مثيل لها، اكتشفت أن الستر والرضا هما أفضل ما في الحياة .
الفيروس لعين حقا، و لكن المرض يعلمنا ما لم نكن نعلم و ربما ما لم نرد .