في الوعي والثورة
الدكتور خضر محجز | مفكِّر فلسطيني
كيف يمكن للشعب أن يعزل الحاكم دون إراقة الدماء؟ هذا هو جوهر السؤال الديموقراطي. لكن ليس هذا هو سؤال الحرية، فالحاكم إذا كان طاغية، في بلاد غير ديموقراطية، سوف يمتنع عن قبول العزل، طالما امتلك القدرة على الامتناع.
كل حاكم لا يحتكم إلى الشعب في النزول عن الحكم بعد المدة المقررة قانوناً هو ديكتاتور. وقد عودتنا التجربة أن كل ديكتاتور طاغية. لأنه إذ يشعر بأن الشعب يرغب في نزوله عن السلطة، ويسعى إلى ذلك؛ يتخذ من وسائل البغي ما يقهر به إرادة الشعب.
وكثيراً ما يحدث، في البلاد غير الديموقراطية، أن يزعم الديكتاتور بأنه قد وصل إلى السلطة بإرادة الشعب، كما حدث مع هتلر. لكن الوصول إلى السلطة كان يومها مشروطاً بالتخلي عنها بعد انقضاء المدة، أو بعد تراجع الشعب عن خياره الأول. فماذا يفعل الديكتاتور؟ إنه يحاول ألا يصل إلى هذه النقطة من التحول التاريخي، إذ يصطنع بعد وصوله للسلطة ــ بإرادة الشعب ــ من الآليات ما يمنع الشعب من عزله. هكذا فعل هتلر. وهكذا حاول مرسي أن يفعل.
حين صرح عبد القادر حشاني، الرجل الثاني في جبهة الإنقاذ الجزائرية الإسلامية، فور فوز حزبه بالجولة الأولى في الانتخابات، عام 1991، بأن لا ديموقراطية بعد اليوم، كان ينطلق من وعي قار بحرمة تداول السلطة سلمياً، كما تعلم ذلك من تاريخ الإسلام.
لو وصل حزب جبهة الإنقاذ إلى السلطة في الجزائر حينها، لما نجح الإخوان في مصر بالفوز بانتخابات عام 2012، لأن تجربة الجزائر كان ستكون ماثلة أمام أعين المصريين. لكن الله شاء أن تنكسر تجربة الدكتاتورية الإسلامية على أعتاب مصر، كما انكسرت من قبل كل المشاريع الشريرة طوال التاريخ.
الدكتاتوريون أقوياء جداً، لسبب بسيط، هو أنهم يمتلكون قوة الدولة، في مواجهة شعب لا يرغب في التضحية لاستعادة حريته.
لكنهم من ناحية أخرى ضعفاء جداً، لأن قوة الدولة التي يمتلكونها سرعان ما تنقلب ضدهم. فجنود الدولة في نهاية المطاف لهم أهل يعانون من تصرفات دولةٍ أبناؤهم هم من يحمونها، ثم لا ينالون من الغنيمة حتى الفتات.
في هذه الحالة تصبح الدولة هيكلا شامخاً ظاهرياً، خاوياً في الحقيقة. ويصبح سقوط الديكتاتور مسألة وقت.
الخطر الحقيقي في هذه الحالة يبدأ في الظهور، حين ينسى الديكتاتور هذه المعادلة، ويبدأ الشعب يدرك حقيقتها. لا بد من حدوث لحظة اختبار أولى تسبق الثورة. لا بد من بدايات تمرد مضبوطة، تقيس رد فعل الأدوات التنفيذية للدولة، تقيس إلى أي مدى يستطيع الأبناء المسحوقون، الذين يشكلون جنود الحاكم، أن يمارسوا قمع أهليهم في الشوارع. هذا ما فعله الخميني في بدايات الثورة. وقد نجح في دفع الثورة قدماً، حين رأى تردد الجنود في إطلاق النار على أهليهم المتظاهرين.
هذه هي اللحظة الحقيقة التي تبرز فيها القيادة الميدانية للثورة، لتحسن ضبط إيقاع التمرد بطريقة تزيد من تراكم عوالم التفكك الداخلي لأدوات القمع.
إن هؤلاء الذين يمسكون بالسياط هم في الحقيقة أضعف من الشعب، لأنهم يدركون في أعماقهم أنهم يقامرون، لا بدماء أهلهم الثوار فحسب، بل بمستقبلهم الشخصي كذلك، فالسؤال الداخلي سوف يظل يسوطهم: إلى متى يموت الناس بأيدينا، ثم نظل نحن جائعين؟
لا يستطيع الديكتاتور أن يطعم جنوده مما يطعم، لذا فسوف يظلون شاعرين بأنه يستغلهم لمصلحته الشخصية.
لكن المسألة تكون أشد خطورة على الديكتاتور، إذا كان يحمي طغيانه بالشعار الديني. ربما يصل إلى الحكم من خلال هذا الشعار، لكنه سرعان ما يكتشف أن الشعار يشبه منجلاً معقوفاَ، قد يمكن ابتلاعه، لكن يستحيل إخراجه.
سيبتلع الأتباع هذا الشعار في البداية، رغبة في خلق واقع أفضل من السابق. لكن الطاغية الديني لا يستطيع الاستمرار في اللعبة طويلاً، لا يستطيع أن يطبق شعاره الذي خدع به الأتباع، الذين يعتمد عليهم في قهر الشعب.
تلكم المسألة إذن: الطاغية الديني لا يستطيع أن يعيش كما يعيش الشعب. فلو حاول أن يفعل ذلك، فسوف يكتشف أن السلطة التي اكتسبها بالاحتيال قد تجردت من كل متعها، ثم بقيت محملة بقهرها فقط.
كل حركة التاريخ تقول بأن الطاغية سوف يتمتع بمال الشعب، بما ينافي الشعار الذي أمن له اختراع الجنود والتمتع بحمايتهم، وبما يتعارض مع مصالحهم كذلك. فإذا تمتع الطاغية الديني بمال الشعب، تبدت عورته واضحة، وسقط الشعار الذي حمله إلى السلطة والحماية.
ربما كان بمقدور جندي جائع إطلاق النار على أهله، رغبة في الآخرة. لكنه منذ زمن بعيد صار يلاحظ أن الحاكم لم يعد راغباً في الآخرة، وأن أطفاله الجائعين لن يستطيعوا انتظار الآخرة ليحصلوا على الحليب. بل إنه بدأ يلاحظ مع المدة بأن الآخرة ربما تكون في الجانب الآخر، الذي يطلب منه الطاغية أن يطلق عليه النار.
والخلاصة أن جنودا جائعين لن يستطيعوا أن يطلقوا النار على أهليهم وإخوانهم وأصدقائهم، تصديقا لشعار لم يعد متحققا منذ زمن.
يبدو أن الطغاة الدينيين ـ رغم أنهم الأكثر وحشية ــ يستطيعون أن يسقطوا بسهولة، أكثر مما يتوقعون.