قاع المدينة

أماني الحسين | سوريا

القاع! هذا ما كان يسمّيه أبي الروحي، شارع ضيق، أو ربما عالم واسع، أو حقيقة تتعمّد تجاهلها، تسكنه ناس لا تقرَب الحياة بصلة، أو اجتازت الحياة بشقاءِ صبرها المر، شارع لا يتّسع لهم ولا لبضائعهم البسيطة.

 بعد محنة مررت بها، أيقنت بعدها، أن الله موجود، ولولا رحمته لم أخرج منها.

 لم أرض أن أذهب إلى طبيب يسمعني أو ينصحني، أو أن ألجأ إلى العلاج بالمهدئات السرية لأمحي مشاهد التحقيق من مخيلتي، فتركت نفسي لنفسي، ووثقت في الوقت فقط، فأنا الوحيدة القادرة على شفائها، فلا أحد يعرفك كما تعرف نفسك، فترك لي حرية الاختيار، ولكن طلب مني الخروج والذهاب برفقته كما اعتدنا، برجاء يملأه التشويق، فوافقت، وكان الطريق إلى ذلك الشارع، علّني أحمد الله أكثر وأنسى، وأردد بثقة، في كل وجه أصادفه، أنني بخير. كما تمنّى.

ونسيت أن أذكر أنه، من عِلية القوم، ورجل حقيقي، ولديه من المال ما يفيض، ويملك من العلم والنور، ما يكفيك لتنام باطمئنان. على الرغم من معرفته أنني لا أقبل المساعدة، سوى المعنوية فقط. وأعرف أنه راهن على مستقبله للوقوف جنبي، ومتأكداً من براءتي.

 تركته على وجهته، يشرح، ويحكي لي قصص تلك الناس، وعن معاناتهم المدمية، عن الملابس التي تتجشأ من استخدامها، عن الأحذية التي تعبت من إبر التصليح، عن عيونهم التائهة، عن سؤالهم لرحمة الله، عن نومهم بمحاذاة سياراتهم، عن كل تفصيل يتردد صداه في سماء هذا الشارع.

قاطعته، أبي، ألم تلاحظ شيئاً آخر؟ وسط هذا الشارع الضيق، الناس الأثرياء وهم يبتاعون ما تهم بطونهم فقط، ألم تنتبه لصراخهم في وجوه المساكين لتخفيض الأسعار؟ وإذلالهم بعدم شرائها، ألم تتألم من تنظيف أيديهم المستفز باستمرار على الرغم من حفاظهم على مسافة الأمان فيما بينهم؟ ألم تتألم من بخلهم رغم سياراتهم الفخمة؟ صمت بهدوء يراقبني، وكأنه ينتظرني لأتكلم، وتأكدت من أنه يعرف كما أعرف، ويعرف من أني أزورهم كما يفعل. وابتسم كالعادة وقال: كنت استغرب كيف لم أصدفك، ولكن كنت أطرد هذه المخاوف عني.

فقد كان مكان عملي قريبا من هذا الشارع، وكنت تقريباً أزوره كل حين، والشيء الجميل أني كنت أشتري من تلك الملابس وأفتخر بها، وأسأل عن تلك الأحذية البالية وأعرف أنها مريحة رغم معاركها الكثيرة، لأن في بلدي التجارة مستمرة لو ماتت كل الناس، لهذا أصبحت أشتري تلك الأشياء البالية المستوردة لأني أشم فيها كرامة وحقوق المواطن الغربي، كنت أحلم لو ألتقي بصاحبها يوماً. وأخبره كم أنت محظوظ في بلدك، وأحدّثه عن حاجاته التي بِيعتْ في أجمل شوارع المدينة وأنبل ناس ممكن أن يراها.

 في هذا القاع الجميل حكايا كانت سبباً في محنتي التي زادت معرفتي، ومحاولاتي المستمرة للتغيير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى