أمواج عاتية
رزق البرمبالي | مصر
عاد من عمله الصباحي، مطأطأ الرأس، يجر أذيال الخيبة، ومحاجر عينيه ممتلئة بسحب قاتمة ومثقلة بالمياه، وما إن رأته زوجته فاطمة حتى عَلمت برفض السُلفَة، جلست إلى جواره فوق الكنبة الاسطنبولي وقالت:
– والنبي يا خويا مَتزَعل نفسك، بيقولوا الزَعل عدو الصحة،
نظر إليها وإلى باب الشقة الذي لم يعد يتذكر لونه، وهو يغالب دموعه ولم ينبث ببنت شفة،
رَسَمتّ على وجهها ابتسامة رغم ما يعتمل بداخلها من مرارة وألم، ثم قالت وهى تربت على ظهره :
ارمي حمولك على الله يا عبد الحميد، وأردفت: شوف المعلم عباس، يمكن يسَلفك ونرتاح من الغم ده، هز رأسه في أسى وقال: قومي حضري الغدا، ميعاد الجراج قرب، وتمتم في سره: منين هتيجي الراحة؟!
وضعت فاطمة كشري الفول الحريتي الساخن، وبعض من البصل الأخضر وقالت: الغدا جاهز ياخويا،
بينما هم جلوس حول الطبلية قالت مستفسرة : الشركة رفضت السُلفه ولا أجلوها؟!
قال: تقدمت للمدير بالطلب، ضحك وقال: شوف حد يسلفنا احنا الإثنين، خد ورقتك وروح ياعم عبده اعملي فنجان قهوة!
قالت متعجبة: هى الناس اتعدم من قلوبها الرحمة!
سألها عن الأولاد، ردت بعد أن ازدردت مافي فمها من طعام :
ثناء وحازم في الجامعة، وندا وحسين في الدروس، وسعفان إتصل، بيسلم عليك وبيقول إنه هيتأخر عن موعد إجازته أسبوع آخر،
– ليه؟
– بيقول عندهم تفتيش في الكتيبة،
– ونرجس؟
ضمت أصابع يدها اليمني، ووضعتهم على شفتها السفلى ثم قالت:
– نرجس: كِبدي عليها، لسه نايمة من شوية، ودمعتها على خدها،
قطب جبينه وقال في غضب :
– هو كان لازم أطقم الصيني في الجهاز، والحاجات اللي ملهاش لازمة دي، و ال…….
قاطعته قائلة: لا، لا.. ياعبد الحميد، أنت عايز الناس تأكل وشنا، دي أول فرحتنا ياخويا، و لازم نِعْملها الحلو كله!
وضع الملعقة، ورفع يديه ووجه للأعلى قائلاً : الحمد لله، اللهم أدمها علينا نعمة واحفظها من الزوال،
وهو في طريقه إلى عمله المسائي، الذي يبعد إثنين كيلومتر تقريباً، كانت السحب الداكنة تتحرك في السماء بسرعة، بينما البرق يرسل تحذيراته بين الفينة والأخرى، أسرع الخطى حتى لاتلحقه زخات المطر المحتملة،
هل يوافق عباس على السُلفه؟
إن عباس يكسب كثيرا، وهو رجل طيب القلب رغم جمود وجهه،
انفرجت أساريره وأفترت شفتاه الجافة عن ابتسامة ، لكن سرعان ما ارتجف قلبه وطفحت المرارة من حلقه فقد تذكر أن عباس مدمن مخدرات،
زمجرت السماء، وفتحت أبوابها، فرفع جزء من الكوفية الصوف المهترئة فوق رأسه، لعلها تقيه ماء المطر الغزير، ولكن هيهات!
في الجراج، تناول الجردل والفوطة وبدأ عمله بتطويق وتلميع السيارات، بينما عباس يتابعه من خلف مكتبه الزجاجي على يمين البوابة الإلكترونية، وهو ينفث الدخان الأزرق كعادته، زادت شدة البرد تلك الليلة من تعبه، إذ أوشكت أصابع يديه على التجمد، لولا أنه أدفأها على فحم شيشة عباس، وهو يحتسي كوبا من الشاي الساخن،
بتثاقل وهدوء سار في طريق العودة يجر الخطى، والخيبة الثانيه، ولو انها كانت متوقعة، فالمدمن جيوبه خاوية على الدوام!
كان جسده يرتجف وقدميه غير قادرتين على حمله، فكر أن يستقل سرفيس، لكن سرعان ما نفض هذه الفكرة من رأسه، جنيه السرفيس يكفي لشراء خبز الصباح، حدث نفسه،
وصل منتصف الليل لاهث الأنفاس،
و أسنانه تصطك من البرد، وصدره ينتفض بقوة،
إستقبلته فاطمة وهى تتثائب وبيدها شمعة تخشى عليها الانطفاء،
سأل: أَحَدثَ عُطل في الكهرباء؟!
– موظفين الشركة شالوا العداد، وقالوا علينا مبلغ ثلاثة آلاف جنيه!
جلس على الأرض ودفن وجهه بين كفيه، ثم بكى كطفل فقد أمه وأبيه للتو في حادث مرور،