الجمع بين الضّدين في رواية رأيت رام الله، للشّاعر مريد البرغوثيّ
أ. محمد موسى العويسات | القدس ـ فلسطين
هل للجمع بين الضّدّين (النّقيضين) دلالة معيّنة؟ هل هو توظيف مقصود لدى بعض الكتّاب؟ هل له أصل في العربيّة؟ وما المقصود بالجمع بين الضّدّين في وصف الحالة الواحدة؟ لا شكّ في أنّ الحالة الواحدة أو الشّيء الواحد لا يحتمل إلا حكما واحدا أو وصفا واحدا، ولا يمكن أن يجتمع عليه وصفان ضدّان، فلا يحتمل أن تصف موقفا ما بالقبيح والجميل في آن واحد، ولا أن تَسِمَ شخصا بالشّجاعة والجبن في الوقت نفسه، ولا أن تصف طعاما بالحلاوة والمرارة معا، ولا أن تقول عن نفسك في مسألة ما أعرفها وأجهلها، فهذا هو المقصود بالجمع بين الضّدّين، وهذا لا يكون في منطق العقل، اللهمّ إلا إذا كان هناك محذوف يدركه السّامع من خلال السّياق أو من لحن القول، وهو ما يعرف في اللّغة بالاحتباك، ذلك أن تقول في موقف ما أعرف ولا أعرف، بمعنى أعرف بعضه ولا أعرف بعضه، أو أعرف من فعله وأنكر، أي أنّه خلط المعروف بالمنكر، فعرفت المعروف وأنكرت المنكر، ومن ذلك قول الشّاعر عليّ بن الجهم:
عيون المها بين الرّصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فبيّن أنّ الشّاعر وقع في الحبّ أو الهوى قاصدا وغير قاصد، أو أنّه بحث عنه في لحظة ما، وجاءه بلا طلب أو سعي في أخرى، ولكنّ المعنى أو الدّلالة المستفادة أنّ الشّاعر غير جازم كيف وقع في الهوى، فلا يستطيع أن يقطع في الأمر، والأبعد من ذلك أنّه يصف شدّة أسر عيون المها له، أي شدّة جمال النّساء اللائي وقع في حبّهنّ، فعقله من جمالهنّ ذاهب. وهكذا يكون للتّضادّ أصل لدى السّابقين من الأدباء والشّعراء، ولو تتبعنا هذا في الأدب القديم لوجدنا منه الكثير، وبخاصّة لدى الشّعراء، فالشّعراء به أحرى وعليه أقدر، فقد جمع امرؤ القيس بين هذه المتضادّات في قوله واصفا حصانه: ( مِكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا). فهو في اللّحظة نفسها آلة كرّ وفرّ، و في اللّحظة نفسها يقبل ويدبر، ولولا قوله (معًا) لكان الكلام غير محتمل التّضادّ، فهي الكلمة التي جمعت الكرّ والفرّ في آن واحد، والإقبال والإدبار في آن واحد، فهل هذه مبالغة من الشّاعر في وصف قوّة حصانه وسرعته الخاطفة؟ هل أدرك امرؤ القيس في الحصان حركات متلاحقة تجعل المتأمّل المتدبّر يراها وقعت منه معا؟ ربّما يكون هذا أو ذاك وربّما يكون لأمر لم نقع عليه. ولكنْ لهذا التّضادّ جمال بيّن، وله دلالات، قد يكون منها شدّة الذّهول والإشارة إلى الجمال المذهب للعقل، وقد يكون للمبالغة في وصف ما، وقد يدلّ في غير هذين الموضعين دلالة صادقة على عدم قدرة الشّاعر أو الكاتب على الجزم أو القطع في الأمر، وقد يأتيان به، أي التّضادّ من باب الفكاهة والسّخرية، اللّتان قد تقصدان لإظهار مرارة الموقف وقسوته، كقولهم: هذا أمر مضحك مبكٍ، ومن هذا القبيل جاء نحت الأديب إميل حبيبي من كلمتي متفائل ومتشائم كلمة متشائل، في رواية المتشائل، وهو المعروف عنه فنّ الفكاهة والسّخرية بقصد النّقد اللّاذع ووصف مرارة الموقف. وفي وقت سابق من هذا العام قرأت رواية الشّاعر مريد البرغوثيّ الموسومة بـ (رأيت رام الله) وهي رواية وسيرة ذاتيّة في الوقت نفسه، أو سيرة في رواية، وتحسب على الفنّين، فلها من كلّ طرف نصيب وافر. ومن المعروف أنّ الشّاعر قد أدركته هزيمة عام 1967 واحتلال اليهود للجزء المتبقّي من فلسطين القدس والضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وهو طالب جامعيّ في مصر ولم يتمكّن من العودة إلى وطنه ومدينته رام الله وقريته دير غسّانة إلا بعد ثلاثين عاما، عاش فيها مهجّرا، يعاني الغربة ويكتوي بنارها نار الشّتات والحنين معا، بعد هذه الثّلاثين أي في عام 1997 وبعد اتّفاقيّات أوسلو وإنشاء السّلطة، عاد إلى أرض الوطن زائرا، فنسج هذه الرّواية التي تصف زيارته إلى رام الله ويستعرض فيها حياته في المهاجر المتعدّدة، وشتات أسرته، وموت أخيه منيف، وموقفه من اتّفاقيات أوسلو، وطفولته، ويتحدّث فيها عن قريته دير غسّانة وأهلها وتاريخها، والقارئ للرّواية المتمعّن فيها يجد أنّ البعد عن الوطن والشّتات قد ترك أثرا كبيرا على نفس الكاتب، وأنّه يحمل في طيّات روايته صراعا نفسيّا، يجعله لا يقطع رأيا في كيفيّة هذه العودة، ولا يجزم في قبول أو رفض هذا الوضع الذي استحدثته اتّفاقيات أوسلو المذلّة. تتبيّن ذلك من أسلوبه الكتابيّ، ومن عباراته التي تتراوح بين التّصريح أحيانا والإيماء في أكثر الأحيان، ولم يكن الشّاعر في روايته منبهرا بتلك العودة ولا منفعلا بها، بل وظّفها أيّما توظيف لوصف ذكريات الغربة والمنفى المؤلمة، فقد أثارت فيه أحزانا وأشجانا وأوجاعا. وفي أثناء قراءتي الرّواية وجدت الكاتب يستخدم المتضادّات أو ما نسمّيه في البلاغة (الطّباق) إذا ما كان في الكلمتين، والمقابلة إذا ما كان تضادّا بين عبارتين، يستخدمه بشكل لافت، ولا شكّ أنّه يقصد ذلك، ومهما كان قصده فإنّنا نحمله أو نردّه لأمور عدّة أهمّها أنّه شاعر وهذا أسلوب يغلب على الشّعراء، فهو أوجز وأبلغ وأمتع من الوصف المباشر، الأمر الثّاني أنّه يعاني أو عانى نفسيّا عدم الاستقرار وعاش الشّتات والغربة بكلّ ما تعني وتحمل، يقول في المهجّر: ” هو الذي تنعطب علاقته بالأمكنة، يتعلّق بها وينفر منها في الوقت نفسه” ص7. إذن لا يوجد هناك جزم أو قطع في الأمر، فلا شكّ أنّ الغربة أو بلاد الغربة والمهاجر قد تجد فيها حياة أجمل من الحياة في وطنك من جوانب عدّة فتتعلّق بها ولكنّ الحنين والشّوق، وربّما لأتفه الأسباب، يجعلك تنفر منها. يقول: ” هو الذي يحتقرونه لأنّه غريب أو يتعاطفون معه لأنّه غريب والثّانية أقسى من الأولى” ص8، فهذا وصف دقيق لحالة نفسية ملازمة للغريب، يرفض الشّفقة والعطف عليه لأنّه غريب، يلازمه الشّعور بالضّعف والمهانة. يقول أيضا: ” ما مضى من العمر يغلّله الغبش الذي يكشف ولا يكشف، يبدي ولا يبدي” ص14، وهنا الشّاعر يصف الضّبابيّة التي تعتريه، لا بل يقرّر أن يبقى بين الأمرين في منطقة رماديّة، يكشف فيها ولا يكشف. الأمر الثّالث يكون مبدئيّا وهو أنّه غير راض أو غير مقتنع بهذه العودة وبهذا الوضع السّياسيّ المشوّه، فهو يريد العودة ولكنّه غير راض عن الكيفيّة، يقول: ” ها أنا أسير نحو أرض القصيدة: زائرا؟ عائدا؟ لاجئا؟ مواطنا؟ ضيفا؟ لا أدري” ص16. فهذه الأربعة متناقضات، الزّيارة تنتهي ويعود من حيث أتى، والعودة يعني الرّجوع والاستقرار، واللّجوء يعني غربة في وطن، ومواطن يعنى لك وطن ذو كيان سياديّ، وضيف يعني غريب هناك من يستضيفك مؤقّتا. ثم انظر في قوله: ” الآن أمرّ من غربتي إلى… وطنهم؟ وطني؟ الضّفة وغزّة؟ الأراضي المحتلّة؟ المناطق؟ يهودا والسّامرة؟ الحكم الذّاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين؟” ص19، وهذا من أبلغ النّقد السّياسيّ للوضع الجديد ومشروع أوسلو، إنّه يعبّر عن الحقيقة التي لا يستطيع كثيرون التّعبير عنها لغة أو سياسة، إنّه حالة ارتباك تحكّم فيها المصطلح أو المسمّى، ففي هذه العبارة يختزل موقفا سياسيّا، وسيرة تاريخيّة لمشاريع سياسيّة. يقول في موضع آخر: ” هل ازداد غسان الآن قربا إلى عكا أم ازداد ابتعادا؟” ص22، ويقصد غسان كنفاني، فهذا حديث عن مشروع أوسلو، وهو إيماء بأنّ كلّ الشّعارات لتحرير كلّ فلسطين قد ذهبت وابتعدت. فالجواب مختزل في السّؤال، إذن الكاتب يختزل موقفا سياسيّا. وقد يلجأ الكاتب إلى هذا الأسلوب من باب الفكاهة من مثل قولة متذكّرا طفولته في دير غسّانة ورام الله وذكرياته وزملائه مع بنات المدارس: ” و(يشلفن) عقولنا حين ينظرن إلينا وهنّ لا ينظرن إلينا” ص47، بل هو تعبير دقيق عن حالة من الصّبيانيّة يفسّر فيها الفتى كلّ نظرة من فتاة حبّا وإعجابا، والعبارة تعني أنّهنّ ينظرن إلينا نظرة عاديّة خالية من الحبّ والإعجاب. يقول في بائع الصّحف الذي قتل بشظيّة في الحرب في مدينة رام الله: ” من أين جاء أبو الحبايب؟ أين أهله؟ الكلّ يعرفه ولا أحد يعرفه” ص55. وهناك عبارات تكشف شاعريّة جميلة تمزج بين الفكاهة والمرارة، يقول: ” كنّا اثنين في الغرفة، وكان كلّ منا وحيدا” ص72. فهذه أبلغ من قوله غير متفاعلين أو متآلفين أو متعاونين. والكاتب في ثنايا روايته يصرّح بأنّه يلجأ إلى الفكاهة، يقول: ” استوقفني أنّني أسرفت قليلا في اللّجوء إلى الفكاهة، لكنّني قلت لا بأس، ليكن، هي هكذا، إنّها مأساة، نعم إنّها مسخرة، أقصد في نفس الوقت” ص146. يؤكّد أنّها مأساة، ويعيد التّأكيد بحرف الجواب نعم ونون التّوكيد وضمير القصّة (الهاء) على أنّها مسخرة، إذن هما ضدّان متجسّدان فيها مأساة ومسخرة، أمّا عبارة (في الوقت نفسه) فقد وردت كثيرا في متضادّاته وكأنّها لازمة. يقول في موضع آخر: ” يبدو أمام الناس هشّا ومتعاليا أقصد في الوقت نفسه” ص157، ويقول أيضا: ” قد يشبه العدوُّ مَنْ يعاديه، وفي فلسطين تطابقَ الشّبه واكتمل: المكان للعدوّ، المكان لنا، الرّواية روايته، والرّواية روايتنا، أقصد في الوقت نفسه”. ص187
ما حقيقة هذا التّضادّ لدى كاتبنا؟ يجيب: ” في لغتنا نحن المنفردين بنعمة الضّاد (ماذا كنّا سنفعل بدونها؟!) أصبح مألوفا أن نقرأ المأساة والملهاة في الصّفحة ذاتها، في الواقعة ذاتها، في الاتّفاقيّة ذاتها، في الخطبة ذاتها، في الهزيمة والنّصر، في العرس والجنازة، في الوطن والمهجر، وفي ملامح وجهنا الواحد كلّ صباح” ص147. وهذا لا يفهم منه انتقاد للّغة، بل هو انتقاد لعقليّاتنا وأفعالنا، وقدرتنا على الجمع بين الضّدّين، وهو نقد سياسيّ أيضا. يقول: ” النّاس مع هذا الحلّ والنّاس ضدّ هذا الحلّ في الوقت نفسه” ص144. إذن هناك ضبابيّة لا أحد يعرف إلى أين ذاهبون؟ ومنهم الكاتب.
وهكذا جاء هذا الأسلوب متساوقا مع فكرة الرّواية، واشيا بالحالة النّفسيّة للكاتب ورؤيته المضطربة للعودة والحلّ السّياسيّ الهجين، وكان خيطا بيّنا في هذا النّسيج الذي جعل من السّيرة رواية، وكان ملوّنا بالجِدّ والهزل، بالمأساة و(المسخرة) التي أطلقها الشّاعر على الملهاة قاصدا أنّ المسخرة ليست لهوا، وإنّما وليدة المأساة.