مُنير حسانين .. مُتمردٌ علي الدوام !

صبري الموجي

رئيس التحرير التنفيذي لجريدة (عالم الثقافة)

  كان أبوه ضمن نفرٍ قليل من أبناء القرية لم يتجاوز عددُهم أصابع اليد الواحدة الذين – نفدوا بجلدهم – والتحقوا بالتعليم الأزهري وتخرجوا في مدرسة المعلمين التي أهلتهم للعمل بالتدريس لتلاميذ المراحل الأولية، ففروا بذلك من العمل مع عمال السُخرة والتراحيل، الذين دأبوا علي الخروج من بيوتهم (من طلعة الشمس لغطستها) نظير الحصول علي (اليومية)، التي لم تكن تكفي لشراء خبز بلا (غُموس)، وفروا بالتعليم أيضا من مشقة ( جني القطن) ومُلاحقة (الخولي) لهم بعيدانه الخضراء التي كانت تنزل علي أجسادهم فتُدميها أكثر من إدماء (الكورباج السوداني)، كما حماهم  التعليم كذلك من العمل في صناعة الخوص والأقفاص، وبرادع الدواب، وهي السُروج التي تُوضع علي ظهور الدَّاوب لتُعين أصحابها علي امتطائها وحمل أثقالهم عليها، وكلها مهنٌ ( تقصِف العُمر) ولا يجني أصحابُها من ورائها إلا ما يسُد الرمق وليس أكثر.

استحضر محمد حسانين عمر كل هذه المشاق التي تنتظر ابنه مُنير إن لم يلتحق بالتعليم، ويحصُل علي شهادة تضمن له الوظيفة الميري، فأخبر أمه بأنه سيدفع بصغيرها (منير) إلي مدارس التعليم الإلزامي، وكان له ما أراد، فقُبلت أوراقُ الولد والتحق بالمدرسة الابتدائية، وحيث إنه كان جميل الخلقة، بهي الطلعة وسيم الهندام، زادت ثقتُه بنفسه، واعتدادُه بذاته، الذي بلغ إلي حد التمرد علي ظروف الحياة الصعبة، وفقر المعيشة، ورأي في تمرده ذلك إثباتا لذاته، وتأكيدا أنه صاحبُ قرار منذ صغره، فقضي حياته التعليمية الأولي  بالطول والعرض في فُتوة ومرح، شريطة ألا تصل إلي أبيه شكاية منه في خُلق أو دِين، وإلا فسيكون العقابُ شديدا، والحبسُ في (حجرة الفئران) هو وسيلةَ التأديب.

ولأنه صاحبُ عقلية متميزة، فقد اجتاز منير حسانين مراحل التعليم الأولية بتفوق، وانتقل للتعليم الثانوي، وكانت مدرسته بمدينة بنها التي تبعد عن قريته بما يزيد علي 10 كيلو مترات، كان يسيرُها هو ورفيق دربه محمد الخولي سيرا علي الأقدام، وبالصبر علي الرحلة، والجَلد في الطلب، والذي (دابت معه الأحذية) أنهي مُنير حسانين مرحلة الثانوية، ومن ساعتها بدأت تتجلي واضحة روحه المُتمردة، إذ حرص كل الطلبة وأولياء الأمور علي إلحاق أولادهم بمدرسة الحقوق أو ( كلية الوزراء) كما عُرفت آنذاك، إلا أنه أصر علي دراسة التاريخ، لشغفه بتاريخ أمته، وإيمانه بأن من لا تاريخ له فليس له حاضرٌ ولا مستقبل.

وفي مرحلة الجامعة حيث الشباب والفتوة، كان منير (دنجوان) الشلة، فقد جعلته عيناه الخضراوان وشعره الأصفر  مطمع كل فتاة في الجامعة، ولكن تربية أبيه الصارمة، وتعهده له صاناه من الوقوع في الزلل والخطأ.

تخرج مُنير حسانين في كلية الآداب قسم التاريخ، وعندما وصله (جواب التعيين)، واصل تمرده، فبدلا من أن يعمل مدرسا لمادة التاريخ، عمل مدرسا للغة الإنجليزية، فجابت شهرتُه الآفاق، وأيقن الجميع تلاميذ وأولياء أمور أن من لم يتعلم الإنجليزية علي يدي منير فلم يتعلمها أصلا.

كان منير في جمال خلقته وتمكُنه من مادته أشبه بالإنجليز أنفسهم، فكان يخالُه الرائي إنجليزيا استقدمته مدارسُ القرية لتعليم أبنائها.

ورغم أن الرجل كان مدرسا للإنجليزية إلا أن تمكنه من العربية  نحوا وصرفا كان يفوقُ الخيال، لدرجة أنه كان مرجع أربابها إذا أعياهم إعرابُ كلمة أو توضيح معني، كما كان خطُه بالعربية أشبه بسبائك الذهب.

كان منير إنسانا بمعني الكلمة، فلم يكن همُه جمع المال، فكثيرا ما كان يرفض أخذ مقابل  حصص الدروس الخصوصية، خاصة من المتفوقين؛ تشجيعا لهم، ومراعاة لظروف أسرهم المادية.

مصلحةُ الطالب كانت غايتَه العظمي، فكان لسان حاله : أينما كانت المصلحة فثم التعلمُ والتحصيل، حدث أن أغراني بعضُ الزملاء الفارين من (عصا عقابه) بترك حصصه الخصوصية، والانضمام لحصص مُدرس آخر، فرضختُ لطلبهم تحت ضغط الإلحاح، مُتذرعا بأنه لن يراني، خاصة أنه لا يُدرس في مدرستنا، وجاءت الريحُ بما لا تشتهي السُفن إذ احتاجت مدرستُنا لمدرس لغة إنجليزية بعد انتقال أحد مُدرسيها بقرار إداري إلي مكان آخر، فاستدعوا منير حسانين لتحمل التبعة، وجمعني به الفصلُ من جديد، فجلست أشبه ( بكتكوت مُبتل) أتصببُ عرقا خجلا مما صنعت، فكتب منير سؤالا علي السبورة ينتظرُ من يجيب، ووقف بجوار مقعدي وأنا مطأطئ الرأس، أتمني أن تنشق الأرضُ وتبتلعني وأحاطني بذراعه، ولما عجز الكلُ عن الإجابة رفعت يدي أطلب أن أجيب، فتهلل فرحا وشجعني مُتناسيا ما كان من نكراني وجحودي.

وإلي جانب ما سبق فقد كان منير كاتب قصة من طراز فريد، وأديبا يصغر أمامه الأدباء.

فرحم الله منير حسانين المُتمرد علي الدوام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى