عرفات بين مشهدين
رضا راشد | الأزهر الشريف
يقدم الإنسان على هذه الدنيا ضعيفا جاهلا، لا له سن يقطع، ولا يد تبطش، ولا قدم تسعى، ولا لسان ينطق ؛يولد عاريا إلا من لفافة حول جسمه؛ عاريا طاهرا ايضا من الذنوب والمعاصي حتى إذا اكتملت نعم الله عليه :فكسي بعد عري، وقوي بعد ضعف، وعلم بعد جهل، وقدر بعد طول عجز إذا به يستخدم نعم الله عليه في معصية الله: فتسود صفحاته إلا من رحم ربك.
ويظل سادرا في غيه، متماديا في بغيه، غافلا أو متغافلا عن مشهد النهاية ..حتى يفجؤه ملك الموت بعد عمر طال أو قصر، فإذا به يعود سيرته الأولى: فيصمت بعد طول كلام، وتسكن أعضآؤه بعد حركتها الدائبة، كانت. فيحور جثة هامدة تقلبه أيدى المغسلين يمنة ويسرة بلا اعتراض منه ولا مقاومة وأنى له ذلك؟!! هيهات هيهات.
وبعد الغسل يلف في خرقة الكفن التى تشبه ما لف به حين ولادته وهكذا يتعانق طرفا الدائرة (البداية والنهاية) ليعود المرء في نهاية حياته سيرته الأولى كما قال تعالى:(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة).
هكذا تتشابه لحظة البداية بلحظة النهاية في كل شيء إلا في شيء واحد ؛هو أن المرء يولد نظيفا من الذنوب ، بينما يعود في النهاية محملا بأوزار عظيمة وذنوب كثيرة، كماقال الشاعر :
خلقت من التراب بغير ذنب
وعدت إلى التراب ولى ذنوب
واستباقا للحظة الندم في مشهد النهاية على ما ران على القلب من الغفلة بين المشهدين – يجيء الحج وركنه الأعظم؛(الوقوف بعرفة) مذكرا بالبداية مستحضرا مشهد النهاية للعبد أمام عينيه وإزاء ناظريه ليمتلئ القلب خوفا ورهبا من الله الغفور الرحيم الكريم؛ فيتجرد من الذنوب والمعاصي كافة تائبا منها ومن الإصرار عليها كما تجرد من ثيابه محرما بالحج،.
فإذا تجرد المرء من الدنيا[مرموزا إليها بالثياب] وتجرد القلب من نية المعاصي والذنوب؛ امتثالا لنذارة مشهد النهاية؛ جاد الكريم سبحانه عليه فنقاه من ذنوبه محاكيا حالته الأولى:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وما هو إلا الجزاء من جنس العمل : تجرد من ثيابه محاكيا حالته طفلا ،فجرده الله من ذنوبه كما كان الطفل لحظة ميلاده .
وهكذا…يجيء عرفات منذرا بلحظة النهاية مبشرا بحالة البداية .
فاللهم حجة مقبولة مبرورة نعود منها كيوم ولدتنا أمهاتنا