سَمْحة… بين إبداع الكاتب ومأساة التاريخ!
نادر سعد العُمَري | اليمن
في صباحٍ جميل من أيام الشهر الماضي (فبراير 2021م) أعارني صديقي الأستاذ هاني باسل نسخته من رواية (سَمْحة – روزنامة عقيل بن عبدالله المعلِّم) للكاتب العُماني المبدع خالد بن علي بن محمد المخيني، الصادرة عن دار الرافدين في بيروت، 2020م. وعندما آويتُ بها إلى منزلي دسستُها بين أكوام الكتب والأوراق وانشغلتُ عنها أيامًا حتى حانتْ منِّي التفاتةٌ إليها في إحدى الليالي حينما هجع السُمّار وتركوني نديمًا للأَرق والحُمّى، تلك الضيفة الثقيلة التي طافت بعظامي وارتحلتْ على عَجَل غير مأسوفٍ عليها في أواخر الشهر المنصرم، فأخذتُ أتأمل في غلاف الرواية الجذاب الذي تزيّنه لوحة فنية لمقدمة سفينة شراعية، وتواردتْ عليَّ أشباح ذكريات اختزنتْها ذاكرتي عن البحر والبحّارة مما شاهدتُه من أعمال وثائقية أو تمثيلية أو قرأتُه من روايات وقصص عبر السنين، وخمّنتُ من الزُّرقة المائلة إلى السواد ومن السحب الداكنة التي تحيط بالسفينة في لوحة الغلاف أن أجواء الرواية ستكون مأساوية، وضبطتُ ذائقتي على هذا اللون السردي (التراجيدي)، وانطلقتُ مسافرًا عبر صفحاتها المائة والتسعة عشرة.
ولا تسألوا عن دهشتي من حبكتها المُحْكَمة، وتسلسل أحداثها الأخّاذ، وأسلوب كاتبها السهل الممتنع الصحيح الفصيح، ومن روعة التصوير الفني، حتى إن الكاتب يصوّر لك المشهد بكل أبعاده غير متشاغل ولا متغافل عن الأشياء الصغيرة التي تجلِّيه وتجمّله، وينقلك بكل أحاسيسك ومشاعرك معه حتى يتلاشى كل شيء حولك، لتلقى نفسك مبحرًا مع أشخاص الرواية وكأنك من أهل زمانهم؛ إذ ينقلك الكاتب بقلمه العبقري لتعيش في مدينة صُوْر العمانية الساحلية، وتتقمّص دور الشخصية الرئيسة للرواية المعلّم عقيل بن عبدالله، الشاب الصُّوْري المثقف الذي قرر السفر طلبًا للسياحة والفائدة، وكان يدوّن الأحداث يومًا فيومًا في روزنامته (دفتر يومياته) الذي لا يفارق يده، وتنطلق معه في شهر رجب سنة 1378هـ (أغسطس 1958م) برفقة جماعة من البحّارة الطيبين في رحلة بحرية إلى زُنجبار في تنزانيا الواقعة في الشرق الإفريقي، على متن السفينة الشراعية (سَمْحة) التي كانت مفخرة الأسطول التجاري العُماني في ذلك الحين، وبعد المرور السريع بمدينة مسقط لتحميل بعض البضائع تمخر السفينة غربًا قاطعةً بحر العرب والمحيط الهندي حتى تصل إلى غايتها في زنجبار ثم تعيش رحلة العودة وأنت تسمع ضجة الأمواج وزمجرة العواصف حتى تبلغ المأساة الفظيعة التي حلت بالسفينة وبحارتها وهي على وشك الوصول إلى مدينة صُوْر، ولا أحب أن أحرم القارئ من عنصر التشويق، ولا أن ألخّص الرواية فأعورها من حيث أردتُ كُحلَها، بل أرغب لقرائي أن يعيشوا المتعة والإثارة التي عشتُها معها حرفًا حرفًا.
والكاتب القدير خالد المخيني (الذي لم تربطني به معرفةٌ شخصية بعدُ وإن أهداني قبل مدة نسخة من كتابه الآخر: الطريق إلى صُوْر عبر قريبه الأستاذ فتحي المخيني) استقصى روايته من قصة واقعية، ونسج منها هذا العمل السردي الفخم سالكًا طريقة السرد الذاتي في يوميات (عقيل بن عبدالله المعلّم) الشخصية الخيالية التي ابتدعها لتدور الرواية حول محورها. ولستُ مبالغًا إن عددتُ الكاتب المخيني -وهو الأديب المثقف الذي شهد له عمله هذا بنضوجه واكتمال أدواته الفنية-في طليعة الكتّاب العرب الروائيين المبدعين، فقلّما تدفع إلينا المطابع هذه الأيام عملًا سرديًّا في قوة هذه الرواية على كثرة ما يطبع وينشر من غثاء لا تكاد ترى في أكوامه المكدسة شيئًا ذا بال. وأتمنى لهذه الرواية أن تجد طريقًا إلى مكتبات عَدَن حتى أقتني منها نسخة لمكتبتي، ويقرأها أصدقائي الذين تجمعني بهم أواصر الأدب.
كم أنت رائع دكتور نادر