الفيس أكبر فخ نُصب للبشرية
رحاب يوسف كاتبة تربوية وقاصة | فلسطين
الكلمة ليست مُجرَّدَ صَوتٍ وحروفٍ، الكلمةُ قد تُحدِثُ تغييراً في شخصٍ، ومجتمعٍ، وأُمّةٍ، ما لم تستطع القوى الأخرى إحداثَهُ، الكلمةُ تؤثِّرُ عن بُعدٍ، وعن قُربٍ، ولها امتدادٌ في العقل، والجسم، والشعور.
إننا نعيشُ في عالمٍ غير مُستقِرٍّ، وغير آمنٍ على جميع الأصعدة: الاقتصاديّة، والسياسيّة، والفكرية، ومع هذا مُصَمِّمون على السقوط نحو الهاوية، هاويةٍ نتسابقُ في الانحدار إليها بسُرعَةٍ هائلةٍ، وكأنّنا في سباقٍ، هاوية منشورات (الفيس بوك).
كيف نُحِدُّ من خَطَر هذه الظاهرة؟ ظاهرة الطوفان في المنشورات الفارغة من أيِّ مضمونٍ، تنتشر انتشارَ النار في الهشيم على صفحات المواقع، منها المُزَوَّر، ومنها المُضَلِّل، كيف نَقِفُ في وجهها دون حَرَجٍ من ناشريها؟ ودون مجاملةٍ لمنشوراتٍ تَصنَعُ أزماتٍ فكريّةً، واجتماعيةً، وسياسيةً، تغزو عقولَنا دون صَدٍّ أو أيَّةِ إدانةٍ لها؟
هذه المنشوراتُ باتت مَصدَراً للقلق وعدم الاستقرار، يُطلِقُها أصحابُها من خلف الشاشات، ربما جهلاً أو سَفَهاً، بتخطيطٍ أو بلا تخطيطٍ، بناءً على رَغَباتٍ شَخصيَّةٍ من قِبَل فِئَةٍ مُضَلِّلَةٍ تتعاطى مع القضايا بازدواجيّة لا تَتَّفِقُ على رأيٍ مُعَيَّنٍ، فئةٌ تُمارس الإرهابَ الفكريَّ والديكتاتورية، تَفرِضُ عليكَ ما تنشُرُه، وإن لم تتعاطَ معها بالرضا والقَبولِ – بإعجابٍ أو تعليقٍ – تضَعُكَ على لائِحَةِ الأشخاص المحظورين، تَجِدُها تبحَثُ تلقائيّاً عن زرّ الحَظر لأنَّكَ تُخالِفُها الرأيَ، مَن يعارضكَ الرأيَ هو صَمَّامُ أمانٍ يَحميكَ من العُجب بالنفس، لا يكفي أن تحتفظ بأصدقاءٍ يُشبِهونَكَ في التفكير والرأي، فتتحَوَّلُ صفحتُكَ إلى عالمٍ صغيرٍ من أشخاصٍ كالببغاء، يُكَرِّرون المنشورات والتعليقات نفسها نسخاً ولصقاً.
افرَحْ بمن يُخالِفُكَ الرأيَ على صفحتك، فهو بمثابة مُنَبِّهٍ لإعادة النظر في منشوراتكَ، ونَقدُهُ لكَ سَيُعيدُ نظركَ لتبحثَ عن الثَّغَرات وتَسُدَّها.
نحن على أرضٍ يَحتَلُّها غاصبٌ غاشمٌ، نعلم أنّه يُؤمِنُ أنَّ الغزوَ الفكريَّ أخطَرُ من أيِّ غَزوٍ عسكريٍّ، وأنَّ مثلِ هذه المنشورات التي لا تُغَذّي عَقلاً أو روحاً تُمَثِّلُ أقوى اجتياحٍ يغزو الشعبَ، ويُزَعزِعُ ثقافَتَهُ، وثِقَتَهُ بتُراثِهِ، وعاداتِه، وتقاليده.
المواقع الإلكترونية بمثابة الصَّحافَة العالميّة، فالكلُّ يريدُ الاندماجَ مع الآخَر، وتحطيمِ القُيودِ، والدخولِ بمُختَلَف الثقافات والمُجتمعات، هذا أمرٌ عظيمٌ عندما تُريد الانفتاحَ، لكن إذا ضللتَ الهَدَفَ، وأضعتَ البوصلة، لتَقِفَ مكانكَ لحظةَ تَفَكُّرٍ، وتأمّلٍ، ومُحاسَبَةٍ، وتساؤلٍ، إلى أين نحن ذاهبون؟
هنالك أسبابٌ لمثل تلك المنشورات الفَوضَويَّةِ، أهمُّها: الفراغُ، وإثباتُ وجودِ الذات، وتحقيقِ إنجازٍ وَهمِيٍّ يُشبِعُ رضا الناشر، إنّ عدد الاعجابات أو التعليقات التي تتفقَّدُها كُلَّ دقيقةٍ هو الإنجازُ الذي تَبحَثُ عنه لتُشعِرَ نفسَكَ بالرضا، وتَرتَفِعَ أسهُمَ السعادة لديكَ، وربما هذا الأمرُ – على أرض الواقع – يَصعُب تَحقيقُه، ويتَطَلَّب منكَ وقتاً وجُهداً، لذلك وجدتَ البديلَ الأسهل والأسرع.
وسائلُ التواصُل الاجتماعيّ قَدَّمَت لك خِدمَةً عابرةً للقارّات، فما عليكَ إلا ضرب عِدَّةَ نَقَراتٍ على لوحة المفاتيح؛ لتصنَعَ منشوراً أو صورةً، فتبدأ الإعجاباتُ والتعليقات التي تُشعِرُكَ أنّكَ حَقَّقتَ أعظَمَ إنجازٍ، فيرتفعُ مؤشِّرُ رِضاكَ عن نفسك، وتَمُرُّ السنون، وقد حَقَّقتَ آلاف المنشورات، والإعجابات، والتعليقات، والتي لا يتذكَّرُها أحدٌ حتى أنتَ!
أكبرُ فَخٍّ نُصِبَ للبشريّةِ، ووقَعتَ في شِراكِهِ هو “الفيس بوك”، سَرَقَ منّا اللحظات الجميلةَ حين تَذهبُ لنَشرِها من أجل إعجابٍ أو تَعليقٍ، وتَنسى أن تعيشَ تفاصيلَها، كتوثيق مائدةِ الطعام التي أعَدّتها زوجَتُكَ لكَ، في الحقيقة أنتَ لا تَتَذَكَّرُ أيَّ تعليقٍ كُتِبَ لكَ، لكن ما سيبقى عالقاً في ذهنِكَ للأبد هو لحظةُ تَسَلُّلِ أشِعَّةِ الشمس إلى المائدةِ من الشُبَّاكِ على صوت العصافير، وابنُكَ الرضيعُ يُحاوِلُ أن يَمُدَّ يديه من عَرَبَتِه الصغيرة نحو صَحن البَيض ليَسكُبَهُ، فتَنفَجِرُ الأمُّ بالصراخ، والأخوَةُ بالضَّحِكِ، والأبُ بتهدِئَةِ الجوِّ، والجَدَّةُ بتخبئة حَفيدِها، والعَمَّةُ بتشجيعِه بالمُلاعَبَة والملاطفَة، ستَتَذَكَّرُ لحظَةَ سؤالِكَ أبناءكَ عن يوميّاتِهم المَدرَسِيَّة، وستتذكَّرُ الأمُّ لحظَةَ تَلَذُّذِ زَوجِها وأبنائها، وهُم يَتَذَوَّقون الطعامَ مَعَ رائِحَةِ البُّهارات وأجراسِ الملاعق، هل تستطيعُ أن تتذكَّر تعليقَ فُلانٍ أو فُلانَةٍ بهذا العُمقِ والإحساس؟
هواتِفُنا أصبحت الأقرَبَ إلينا، نَتَفَقَّدُها عَشَراتِ المَرَّات في الساعة الواحدة، وفي كُلِّ الأماكن، في وسائِلِ النقل، في العَمَل، قبل النَّوم، على مائِدَة الطعام، وفي الاجتماعات العائليّة، وفي لَحَظات الصمت، ظنّاً منّا أنّها الوسيلةُ الوحيدَةُ التي تقضي على السأَمِ والمَلَلِ، في الحقيقة أصبحَت مَواقِعُ التواصل عِبئاً جَديداً على أدمِغَتِنا ما يَجعَلُها في حالة تَوَتُّرٍ دائِمٍ بسبب كميّة المَعلومات المُتَدَفِّقَةِ، والتحليل، والربط، والتَّذَكُّرِ، أدمِغَتُنا حَقّاً بحاجةٍ إلى الراحة، احبس الهاتف في جيبِكَ ولو لدقائق، إن كُنتَ في الحافلة أطلِقْ بَصَرَكَ ليَتَجَوَّلَ في الطبيعة، وإن كُنتَ مع العائلة تَحَدَّثْ واستمع إليهم.
ستُواجِهُ التَّنَمُّرَ – على شبكة التواصل الاجتماعيّ – من قِبَلِ أشخاصٍ مَجهولين أو معروفين، مُتَشَرِّدين فِكريّاً ، أو مُنفَصِلين عاطفيّاً، ويكونُ المُستَهدفُ هُوَ الأضعفُ اجتماعيّاً، أو المرأةُ!
أحسنت أستاذة رحاب يوسف
تحياتي
أحسنت أستاذة رحاب يوسف .. مقال متميز
تحياتي