التعايش مع الآخرين
د. علي زين العابدين الحسيني | كاتب مصري
شهدت مصر منذ أيام انطلاق مؤتمر “حوار الأديان والثقافات” الذي نظمه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية، ولقي دعماً شديداً على أعلى المستويات، وقد شاركَ فيه سبعون عالماً من أربعين دولة يمثلون المسلمين والجاليات الإسلامية حول العالم من علماء ومفكرين وشخصيات عامة مشهود لها بالكفاءة العلمية والفكر الوسطي.
ومن محاور المؤتمر المهمة قضية اجتماع الشعوب على مشتركاتٍ إنسانيةٍ فيما بينها، حيث يجعل الدين الإسلاميّ الإحسان سمته البارزة، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ولا يتوقف في إحسانه مع الآخرين ورحمته بهم على الإنسان فقط، بل يمتد ليشمل الكون كلّه، ويقتضي الإحسانُ التسامحَ مع الآخر المبنيَّ على أساس التعايش، وهو ما يحقق السعادة والوئام للجميع، وقد جسّد المسلمون هذا التعايش في معاملاتهم.
يظهر التعايش واضحاً في المجتمع المتنوع الديانة والثقافة، ومن معانيه التفاعل المتبادل بين طرفين مختلفين في العادة أو المعتقد، والحث على تماسك المجتمعات التي قد ينتمي أفرادها إلى نماذج مختلفة في الثقافة أو الدين، فأساس التعايش الاعتراف بالآخر، والعمل على قبوله.
ومن خلال نظرةٍ سريعةٍ للسيرة المحمدية سندرك أنّ الرسول ﷺ هو الذي وضع أسس التسامح مع الآخرين بين مكونات المجتمع المختلفة؛ امتثالاً للقرآن الكريم في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وقوله تعالى{لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وتوجد كثير من الأحكام الشرعية في كتب الفقه الإسلامي المرتبطة بمبدأ التعايش الحاثة عليه؛ كقبول هدايا غير المسلمين، والوفاء بعهدهم، ومشاركة المسلمين مع غيرهم في الواجبات الاجتماعية والوقوف بجانبهم عند حدوث ما يؤذيهم، ومن ذلك عيادة المريض منهم؛ حيث اعتبرها المسلمون من الواجب الاجتماعيّ عليهم لتأصيل مبدأ الأخوة الإنسانية في المجتمع.
ومما يتفرع على ذلك عدم التفرقة في أماكن التعليم على أساس الدين، وكان أمراً مشهوراً عند علماء المسلمين، فذكر ابن خلّكان في “وفيات الأعيان” أن الطبيب المسيحي المرموق يحيى بن جزلة كان يقرأ على أبي علي ابن الوليد المعتزلي ويلازمه، وكان أبو محمد الغَنَوي النَّصِيبي -من علماء دمشق- منقطِعا في منزله يتردد عليه جماعة من المسلمين واليهود والنصارى والسامرة، ويُقرئ الجميع العلوم المختلفة؛ وفقاً لابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.
وكانت الأحزان أيضاً تجمع بين طوائف المجتمع كله، فقد ذكر الخطيب البغدادي في ‘تاريخه‘ أنه وقع المأتم والنَّوْح يوم وفاة أحمد بن حنبل ببغداد في أربعة أصناف من الناس: المسلمين واليهود والنصارى والمجوس، ونقل المؤرخ الذهبي عن ابن بَشْكُوال أنّ العالم الأندلسي عُبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي القرطبي شوهد يوم موته البواكي عليه من كل ضرْب، حتى اليهود والنصارى!
إنّ التعايش كلّه خير، ويترتب على فقدانه في المجتمع خللٌ واضحٌ مع كثيرٍ من المحاذير الشرعية، فإذا لم يكن هناك تسامح وتعايش فإن الكراهية والبغضاء والشحناء والتنافر ستسود في المجتمعات، وهو الأمر الذي يرفضه الإسلام، ويحذر منه تحذيراً شديداً، ويحاربه علماء الدين الإسلامي في أقوالهم وأفعالهم.