رسالة إلى الوطن

عدنان الصباح  | كاتب فلسطيني 

أيها الوطن 

يقلقني قبل الشروع في الكتابة إليك ماذا سأكتب في خانة العنوان فلم يعد كافيا اليوم أن أكتب اسمك الكامل وحده بل صار بحاجة لتفسير لأفسر المكان والانسان فانت مختلف في يافا عن جنين وفي الناصرة عن رفح وفي ام الفحم عن القدس كل زاوية فيك باتت بحاجة إلى تعريف حتى دروبك ما عادت دروبنا الا بتعريف. 

لم يعد كافيا ابدا ان اسميك فلسطين لأسميني فلسطيني بل بات ضروريا ان ارسم على الكفين وشم اخر غير حروف اسمك كي تعرفني واعرفك فأي تيه هذا يا ايها الروح المسجى بيننا نغيبك ولا تغيب ونظلل عيوننا بالليل كي لا ترانا فنسمع شهقتك تبكي عجزنا فأينك أيننا يا وطن الحلم بعد ان بات الكون صغيرا والذهاب عنك لنغني لك من بعيد اقرب الينا منك بعد ان كنت انت حبل وريدنا.  

هكذا أنت عاريا ولدت وعاريا عشت وعاريا تبقى, كل الذين ستروا عوراتهم بك ماتوا او أنهم لم يصلو مقابرهم بعد, لكنهم لم يكونوا يدرون ولا زالوا لا يدرون ان ستر عوراتهم بك لن يمنعهم من الاندثار وتبقى منشورا في الريح طالعا في النار مزروعا في التراب , تبقى انت صلابة الصخر وخضرة الشجر وروعة الماء ودفء التراب. 

قبل زمن ليس بعيد حين كانت الخضرة والخبز غير متاحة لنا في كل الفصول كنا نجفف الاشياء ونعلقها قلائد في صدور بيوتنا لنغفو آمنين على أرض الوطن حين كان الوطن لا زال لنا او لا زلنا نصدق انه لنا ولم نفعل للاحتفاظ به شيئا بل نسيناه حد ان صار حكاية مجففة بصورة خارطة نعلقها على صدورنا من باب التباهي لا من باب الحاجة كما كنا نفعل بقلائد البندورة وانواع الخضرة الأخرى. 

من انت ايها التائه عن اهلك في زحمة العيد والوجع بعد ان غابوا دون ان يلبسوك ثوب الاحتفال ودون ان يضعوا في جيبك بعض دراهم كي تلهو وتتركهم بحالهم فكيف يمكن للام ان تغفو عن رضيعها حتى لو اضرب عن شرب الحليب بعد ان تعبت منه سنين العمر وتعب منها  

ايها الوطن 

كل اسماءك انت ولا اسماء لمن أداروا وجوههم عنك … كل دروب الارض والسماء اليك ولا دروب لهم فالحج اليك من جهات الارض الست بما فيها جهة السماء فاليك ارسل الله رسائله وعليك دون غيرك فتح الله بواباته لنبيه ليلتقيه … فمن يملك وطنا مثلك ثم يغفو حالما بغيره … من يا ايها الوطن ولماذا يهرب الابناء بعيدا ويبكونك عن بعد يحترقون شوقا عن بعد ويواصلون الهرب وتحرقهم اللوعة ويواصلون الهرب. 

أيها الوطن 

انهم يشعلون نار الفتنة بيننا لتطردنا ونطردك لتقتلنا ونقتلك لتذبحنا ونذبحك والا لماذا يفعلون بنا ما يفعلون … لماذا يجعلون منك ملكية خاصة للنهب والسلب والتخريب فكل الفلاحين الذين يملكون مزارعهم يحرصون عليها ويحمونها بعيونهم فهي بوابة عيشهم ومصدر خبزهم فلماذا يفعل بنا وبك ذلك فلا يدعون لنا وقتا لنغفوا هانئين وينغصون عيشنا وعيشك ولسنا واياك ندري لصالح من يتم زرع الفتنة بيننا لكنهم بالتأكيد يدرون والا لما كانوا يمارسون قتل دجاجتهم التي تبيض ذهبا لهم وهم يرون الناس خلف موائدهم وبطونهم وجيوبهم جياع.  

أيها الوطن 

انت يا ايها المليح كما الملح في اكف عجائزنا يصير سكر … ايها الجميل كما الجمال في حنون جبالنا يصير بهجة .. ايها الطيب كما وجوه اطفالنا تعج بالبراءة والطيبة … ايها الغائب عن حقارة ما يصنعه تجارنا من نذالات … أيها الغني كأرغفة الخبز على أبواب افواهنا دافئة كالريح البعيدة … أيها الناي الموجعة حين تدفعنا للرقص فوق جراحنا … اليها الماء في حين يغيب الماء يقتلنا العطش فتروينا بدمك قبل دمعك فنملأ بطوننا وننساك 

أيها الوطن 

ادريك تبكينا وانت ترانا ننقسم وانت ترانا نغيب وانت ترانا لا  نتقن الاختلاف ولا الحوار ولا التعاضد تبكينا وانت ترانا نصنف انفسنا حسب العشيرة والحزب والجهة واللهجة والصلاة وننسى ان العالم يصنفنا باسمك فواصل بكاءك اذن لعل دموعك تغسلنا من نذالتنا وفرقتنا وجبننا وهروبنا وانشغالنا بنا عنك تاركين لأعدائك الانشغال بك حد اشغالك بهم بالمطلق وغيابنا سفرا وغباء لاجئين ونازحين ومغتربين اخيرا لنشبه الذاهبين للعمل لجني الذهب  لأفواه الجياع فيظل الجوع للوطن اوقوى من جوع الخبز حين لا يجوز لك كنز الخبز بلا ارض مختومة بلون دمك, كل ما ابقينا عليك فينا تصريح ممهور باسمنا, قصيدة تبين فصاحتنا, فستان تراثي لجهة بلدتنا, محراث قديم لا يحرث, ادوات مطبخ تركي عفا عليها الزمن, قلائد ومطرزات لا تغني ولا تسمن من جوع, ولدينا على مرمى دمنا عدو بلا تاريخ صنع له تاريخ وتراث واقصانا بأيدينا الى حيث يشاء. 

أيها الوطن القدس 

لا ستر لنا لا ستر لك فان لم يحمي الله ابواب السماء لن يحميها المنغمسون برذيلة الفرقة والانقسام والدم الذي صار في آخر الاخبار ماء ولن ينسى صراخ مظفر النواب بانك كنت عروس عروبتنا واننا ظللنا لاهون عن اغتصابك وصراخك ولعل احد لم يصدقه حينها لكننا الان على ثقة انك تصرخين وعلى ثقة اكثر اننا صرنا طرشان وفاقدي البصيرة والبصر بالتمام والكمال او اننا نفتعل ذلك عامدين متعمدين لنمارس بحقك القتل العمد لنرتاح من صراخك ونريحك من غباءنا وفرقتنا وجاهليتنا البغيضة, أكتب لك اليوم وشبابنا في شوارعك وعلى اسوارك يدافعون عن عروبتك بصدورهم العارية ولا يحصلون منا سوى على الهتاف من بعيد مما يجعل الامل بغدنا اكبر بكثير من هذا الواقع المرير حد العلقم. 

أيها الوطن الأغوار 

الناشف ترابها كوجه خائف من غدها فهناك لا بيارق الا بيارق الاعداء ولا اكف تزرعه الا بنادقهم والموت وبعض ممن نسوا الفرق بين لون وجوههم ولون ترابها فاختلطوا بالتراب حد ان نسينا نحن اشكال وجوههم وتركناهم معلقين على جدران شوارعنا نراهم في النهار ونتدارى عنهم ليلا وها هو الاحتلال يسعى جاهدا لفك التصاقهم بترابك ويجبرهم علنا على خلع خيامهم وهدم بيوتهم وقلع اقدامهم المزروعة في ارضك ليغادروا الى سفر جديد وجديد وسيبقى سفرنا متواصلا ان لم ننجبل بالتراب حد استحالة نزعنا منه او نزعه منا. 

أيها الوطن المخيم 

المفتوحة عينيه من هلع الأمس وظلام قادمها وهو يراك تبكيه وتبكي حارسيه وتدير ظهرك حين تهتز كتفيك حد الرعشة من شدة البكاء كي لا يضعف الاطفال الذين لم يلوثوا بعد من  نفاياتنا فهم املك الوحيد بان القادم سيكون اجمل فاحملهم انت بعيدا عنا وربيهم ما شئت لعل وعسى يا سيدي ان يكون القادم اجمل, وان لا تصير الخيمة بيتا من حجر والبيت وطن فلا يعود المخيم لانتظار العودة مؤقتا بل بوابة للغياب فانهض بكل اوتاد خيامنا التي استبدلناها بعصي العشيرة وقاتلنا لعلنا يوما نفيق ونعيد للعصي دور اوتاد الخيام حالمين بانتزاعها عصيا يتكيء العجائز عليها في طريق العودة من رحلة الغياب. 

أيها الوطن الجليل والمثلث  

المزروعة بالموت بلا معنى والخوف من اللا شيء الا الاعداء, المنصوبة على عيدان المشانق دون مشانق, المصلوبة على حيطان شوارعها دون صلبان وهي تهرب منها لها فيلقاها الموت موتان موت من يقتل وموت من يصنع الموت ويبكي عليه فيتوه الضحية بين البينين ويمضي غريبا دون كفن ولحد فالقبور لا تكون الا في الوطن والاوطان لا تستقبل جثامين المقتولين القتلة. 

أيها الوطن النقب  

شاسع انت فلا زرقاء اليمامة تعرفك ولا عيون المها تبكيك وليس الا الخوف من مدافن للموت ملقاة هناك بعيدا عن اعين العميان واذان الطرشان الى ان يحين وقتها فتصعد من ترابك نارا ليس ندري لمن اعددت حممها غيرنا 

ايها الوطن الساحل 

لا زلنا نركب موجك ونسافر فنلقي بنا على الشواطئ الغريبة فتعود انت ولا نعود وندعي كذبا انك لفظتنا او اننا ذهبنا منك بعيدا كي نفاجئهم من الخلف ونعودك دون ان نعود نحملك اغاني وقصائد وشعارات ورق وجلسات تضامن في شوارع المدن الغريبة ونعلن عن انفسنا مناضلين للبعيد من البعيد وكلما غارك احدنا جاء من الاعداء الف واستحكموا فيك وغيروا عناوين والوان دروبك لعلنا ان قررنا العودة يوما ان نتوه. 

ايها الوطن غزة 

يا جرحنا الذي لم يندمل ولا يريد له احد ان يندمل بعد ان اقنعوا انفسهم ان جراحنا الكثيرة تنزف ماء لا دم وان هدر الماء لدى الاغبياء حلال فهدرنا من دمنا ما شئنا ونفخنا في الابواق ان دم الفلسطيني على الفلسطيني حلال ولم ندري ان لتراب الوطن دم وقطع شرايين الوطن عن بعضها حرام, فشتمنا الحرام بالصراخ وتركنا ايدينا تذبح الوطن واهله ونحن ندعو للحلال صراخا ونفعل الحرام.  

أيها الوطن الضفة 

يا كثرة الاسماء وقلة المسميات فعن أي ضفة نحكي والمستوطنات تعلو كل قبابها والمستوطنون اختلطت جدائلهم بتعرجات دروبنا وصارت مواقف الطرقات لهم بعد ان كانت لنا الطرقات وما عليها وقباب الجبال لهم بعد ان كانت لنا القباب وما تحتها وما عليها, عن أي ضفة نحكي وليافا ضفة بحر ولغزة ضفة اخرى والكرمل ضفة جبل وجنين ضفة سهل واريحا ضفة نهر عن أي ضفة نحكي وقد غادرنا الضفاف والتلال والجبال والوديان وتهنا كما تاه اليهود مرعوبين من صرخة مظفر ( سنصبح نحن يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا معنى ). 

ايها الوطن  

رأيت طفلا يقطع شجرة فنهرته كي يتوقف فصرخ بي بكل براءته لقد زرعها الاعداء فهي غريبة, فهمت من عينيه حينها ان احدا لم يزرع به حكاية ان هذا التراب لنا والارض تملك ما عليها او انني فهمت ان هذا الطفل افقده من علموه ايمانه بانهم مارقون عنها واننا والتراب والحجارة والشجر باقون, رأيت رجلا يلقي الاوساخ بعرض الشارع وحين استغربت قال ان الاعداء سيمرون من هنا ونسي انهم سيمرون وانه الباقي, رأيت عطوة عشائرية عن حادث قتل كانت فيه الدية تقارب المليون فتساءلت كم هي الملايين التي تنازلنا عنها للاحتلال دون ان تنتفخ اوداجنا غضبا ولم تقدح عيوننا شررا كما نفعل في صراعاتنا العشائرية, مصيبتنا يا سيدي الوطن اننا لا نشعر انك لنا ولذا لا تعنينا بشيء كل ما يعنينا الانا المصغرة حد الخلية الانانية الاعمق فنحن نغسل ونكس بيوتنا ونلقي بأوساخنا لشارع الوطن, نقتلع الاشجار من الاماكن العامة ونزرعها في حدائقنا التي لا نعترف الا بها كوطن. 

أيها الوطن 

الأقرب من روحي ودمي الأبعد من كل مسافات المكان لست أدري ان كان من حقي اعلان البراءة منهم وكيف ولست ولسنا الا نحن الذين خذلناك ولا زلنا نخذلك على الأرض ونكابر كاذبين على كل المنابر, أيجوز لي اعلان البراءة منا واذا فعلت فاين أصنفنا نحن الذين نكذب بدراية الكذب ونصدق كذبنا الذي ندرك بكل جوارحنا انه كذب فأي بشر نحن يا سيدي الوطن, كل ما ادريه جيدا ان لنا في غدنا امل وفي اطفالنا الذين قد لا نستطيع الكذب عليهم كما فعل من سبقونا في عصر المعرفة فكل الاسئلة صارت متاحة لكل طفل واغطية العقول انتزعت حين صارت المعرفة لا يملكها احد ومتاحة لكل من اراد 

غدك اجمل من يومنا لان غدك سيكون بيد الاطهر والانقى منا ممن صار الجهل خلف ظهورهم وما عدنا نحن وحدنا من نصوغ معرفتهم … غدك الاجمل كل براءات الاطفال على ارضك وفي المنافي حين يستفيق طفل في ارض بعيدة ويكتشف ان لا شبه ابدا بينه وبين التراب الغريب الذي يصرخ فوقه باسم بلاده ولذا فهو سيسال حتما عن تلك الارض التي تشبهه وسيسعى حتما ليوحد بين لونه ولون ترابه ويعود. 

يا سيدي الوطن 

سلام عليك منا وسلام علينا بلا سلام بعد ان ودعناك طواعية وغبنا عنك 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى