أكلوني البراغيث
محمد فيض خالد | قاص وكاتب مصري
مضت الأيامُ كعادتها ، ناسخة ظِلال الرّبيع الهانئ، ورونقه البديع، مُؤذِنة ببوادرِ الصّيف المُضني، حينئذٍ تَعوم القرية وسط أهراءِ التبِّن، تتلاحق الحَمير تحمل أثقالا من “زكائب” القمح ، وتِلكَ لعمري من رَزَايا الدّهرِ التي تحِلّ بِنَا قريبا، اعتدت كغيري من أبناءِ الطّينِ؛ أن نحسب لهذهِ الأيام حِسابها، تَرانا نختلِف لمجالِس الكِبار بجوارِ المُصلّى، أو نستلقي فوق حَوافِّ القنوات ، نستلذ برودة نجيلها الأخضر ، نفتعل النّوم نسترِق السّمع ، فقد حسب أولئك حسابهم بدقةٍ متناهية وأذاعوا ك؛ عمّا قليل تصطلي البيوت بنيرانِ “البراغيث” فتلك أوان زَحف قطعانها المتوحشة مِن كُلّ فجٍّ عميق ، يُقسِم عجائز قريتنا، أن “البراغيث” تطير في الهواءِ ، تشتمّ رائحة الغِلال ، تبُعث من مخابئها بين رُكامِ تراب الجُدران ، تظلّ تتنقل من دارٍ لدار ، تطير طَير الدُّخان في أجواءِ الفضاء ، حتى تصبح بعددِ حباتِ الغلال المخزونة في الصّوامعِ، لازمني الخوف كغيري من البُسطاءِ ممن تؤدوه أكلاف الحياة ، فحياتنا مُنذ اللّحظة لن تخل من قلقٍ وضيق، تشتعل نيران مخاوفنا مع مقدِم اللّيل، حِينَ تدِبّ الحياة في جَسدهِ المُسجّى بين تلافيفِ الأفقِ القرمذي، هي فرصة ولاشك سانحة ؛ كي تنشط تِلك المخلوقات الوافدة، تأخذ أماكنها متحفزة لبني الإنسان، تنشب مخالبها في جلودنا البالية ، تمتصّ بلا رحمة ما تَبقّى من الدّماءِ ، تتبدى بيوت القرية في أعينِ أهلها في حِلةٍ من الكآبةِ والسّأمِ ، يتقلّب القومُ فوقَ جَمرِ لسعاتها امتداد الليل ، لا يخالِط النّوم جفن ، وعِند الصّباح تلوح الوجوه ممتقعة اللّون، متجهمة الأسارير عليها أمائر الإعياء بادية ، زارَ قريتنا ذاتَ صباحٍ بائع عجوز ، يتعثّر في أذيالِ الشّيخوخة ، يحملُ فوقَ كتفهِ سلة كبيرة من الخوصِ ، افترشَ الأرضَ بجوارِ البوابة القديمة، أخرَجَ لفائِف صغيرة من الورقِ المقوّى، سألته في فضولٍ الصّغار مستفسرا عما تحوي ، أجابَ وابتسامة ماكرة تُزايل فمه :بدرة للبراغيت..
وقبلَ المغيبِ ، وبعدما تصرّم عمر النّهار ، كانت الجدران قد اكتست بستائر بيضاء، وروائح فاقعة تحبس الأنفاس، تلطّخت الخِلق والملابس بالغبارِ ، تهللّت الوجوه فرحا، لقد أُذِن لهذا الكابوس أن ينزاح ، أخيرا سيُهنئ بالرَّاحةِ بعد طولِ عناء، ولكن شيئا من هذا لم يحصل ، انتفض القوم مذعورين، وكأنّهم افاقوا من حِلمٍ مُزعج ، تتابع صياح الرُّضع تحتَ وقعِ لدغاتها تُمزِق أجسادهم، وامتلأت الدُّروب والأزقّة بالحُصرِ تعركها النّساء عركا، وسحابة من الضّجرِ والغيظ تُظلّل العيون، لقد انطلت كذبة الشيخ المخادع عليهم ، حين أوقع بهم ، فلفائفه لا تحوي سوى الدّقيق ، باتت القرية ليلتها في كربٍ شديد ، تكيل الحناجر لعناتها للمحتالِ، الذي طَارَ بقروشهم، وسلّط عليهم زبانية لا ترحم صغيرهم، ولا تُوقِّر كبيرهم.