أسئلة السماوي أسئلة وطن
د. محمد الواضح | أكاديمي عراقي
أولا – قصيدة (حيرة) للشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي
سـأظـلُّ مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ
الأسـئـلـةْ:
الـدارُ ثـكـلـى
والـمـديـنـةُ أرملـةْ
وطـنٌ تَـسَـيَّدَهُ الـلـصـوصُ
وعـاقـدو صـفـقـاتِ نـصـفِ الـلـيـلِ
والـمُـتَـجَـلـبـبـونَ بـطـيـلـسـانِ “ الـبـسـمـلـةْ “
فـإذا حُـفـاةُ الأمـسِ بـاتـوا الـيـومَ أسياداً
بـأرفـعِ منزلةْ
حـتـى مـتـى يـبـقـى عـلـى الـتـلِّ الـجـيـاعُ
مُـحَـدِّقـيـنَ بـسـارقـيـهـمْ
مُـكـتـفـيـنَ بِـشـهـرِ سـيـفِ “ الـحَـوقـلـةْ “ ؟
ولِـمَ اسْـتـحَـلـنـا لا نُـمـيِّـزُ بـيـن “ حلاّجٍ “ وحـجّـاجٍ “
وفـلاّحٍ وسـيّـافٍ
ولا بـيـن “ الـحـسـيـنِ “ و “ حـرمـلـةْ “ ؟
فـمتـى تـفـيـقُ مـن الـسـبـاتِ جـمـوعُـنـا
الـمُـسـتَـغـفَـلـةْ !
ثانيا: القراءة النقدية
لايزال الشعر لسانًا احتجاجيًا يشكل الحدث الاجتماعي ببعده الأخلاقي والاعتباري سؤاله الكبير في دائرة الأسئلة الواعية والمتهكمة والمتندرة، يظهر الوعي ثيمة مضمرةً في الخطاب الشعريّ، ويحضر التهكم والتندر إشارة بليغة تزيد من فرص تفاعل المتلقي وانشداده مع النصّ من جهة، وتستبطن علائقية الوعي بكل تجلياته حين يغدو كل شيء مثارا للسخرية والتندّر والمفارقة والعجب.
نص السماوي نص جماهيري ينتمي الى اللون السياسي الذي يعتمد على الوضوح والمباشرة لتحقيق الحالة التواصلية في الخطاب، وهذا لايعني أنه يخلو من عناصر التوظيف الشعري وجماليات الأسلوب الأدبي المتغيّى من الشاعر كما سيتضح في هذه المقالة.
فحيرة السماوي الشاعر العضوي المسكون بوجع وطنه، والمأخوذ به عشقا حلاجيًّا، لا يأبهُ: أكان الموت على مقصلته أم في كانونه الشعري؟!
وحبال الأسئلة يلتفّ على بوحه ويأخذ بخناقه وخناق كل العراقيين على ذات المقصلة.
(الدارُ ثكلى والمدينةُ أرملة) يستحضر السماوي في هذا الوعي صورتين مؤلمتين للمرأة العراقية المفجوعة بالفقد:
الأولى: الدار (الأم)الثكلى بفقد أولادها، وماذا بعد الثكل غير انطفاء جذوة الحياة وتشييع الفرح وانكفاء تلك الدار وطنها الصغير؛
إنها بإيجاز أم معطلة من (معنى الأمومة). وما أكثر الثكالى في العراق!!
والثانية: المدينة (الزوجة) أرملة
وهنا تستجلي صورة الانكسار والاغتراب وغياب الانس، والمدينة الموحشة
بتكثيف أعمق وأدلّ ؛ إنه انتظار لغائب لايأتي.
(وطن تسيده اللصوص…)
اللصوصية والسيادة منهج تجاوز فكرة السرقة المنظمة الى حالة ينتهجها أرباب السلطة؛ إذ تُعين دلالة التلصلُص اللغوية على الخفاء والتجسس والظلام؛ لذلك يعاقدون صفقات نصف الليل في (الغرف المظلمة) تطابقا مع صفة اللصوصية المناسبة لهذا المعنى.
ثم يشير الشاعر بقوله (المتجلببون بطيلسان البسملة) إلى تماهي بعضٍ منهم بستار الدين، إذ يرتدون طيلسانهم: ( الطيلسان وشاح ديني يضعه رجال الدين على كتفهم تمييزا لهم من غيرهم) وهنا يكني عن الساسة المتسترين باسم الدين؛ للتدليس عن وجههم الآخر المخبوء تحت الأردية والبسملة اللفظية الخالية من أدنى مصاديق القلب والمعنى.
يعرّض الشاعر بقوله(فإذا حفاة الأمس) -بتهكم لاذع- بحقيقة واقع هؤلاء الحفاة متعجبا من دول الأيام كيف أمسوا وكيف صاروا؟! ويزيد من حيرة الشاعرة هيمنتهم المطلقة على مقاليد الحياة وتقييد الحريات والاقتصاد وقوت الناس.
وليس للجائعين غير سلاح سيف الحوقلة وهذا في الفهم العام أقل سبل الاحتجاج بل هو وسيلة الضعفاء والجماعات المأخوذة بالقهر والخوف والتجويع!!
تتسع حيرة السماوي تعجبا ودهشة؛ إذ تساوت مصاديق الفضيلة والرذيلة لديه:(ولم استحلنا لانميز بين حلاج وحجاج.. وفلاح وسفاح)
تمثيل يشي بمرض مجتمعي جراء ازدياد سطوة القهر، فهل يتساوى(الحلاج) أيقونة التصوف ورمز الإنسانية والصفاء والعشق الإلهي مع (الحجاج) أيقونة البطش والهتك والتجبّر ؟!!!
وهل يتساوى الفلاح مثقف الأرض وموقد الخبز مع سفاح يلتذ بدماء شعبه؟ فبين جرس الجناس(حل . وحج + اج) و( فل. سف+ اح) تناغم في الإيقاع الصوتي وتشاطؤ في المعاني السامية وضدها، فذلك حمل آخر من الشاعر للمتلقي على المفارقة والدهشة!!
ويسدل السماوي الستار على حيرته باستفهام لتمثيل بائن الافتراق والقياس: أن يتساوى الحسين وحرملة!!!، ولنا أن نتساءل لماذا اختارالشاعر في جهة التضاد مع الحسين “حرملة” مع وجود نماذج أعلى تمثيلا منه، كالشمر وابن سعد ويزيد؟!
وهنا اعتقد أن الموضوع ليس له علاقة بالتماثل الوزني(حرملة، مستغفلة) مع فرض احتماله؛ لكن الشاعر آثر اختيار حرملة بوصفه الاسم الاكثر وخزا لجراح الامام الحسين، فقد تركت سهام حرملة بحق من أصابتهم وقعا وألما لايسكن في قلب الحسين وضمائر الاحرار؛ لذا يعد اسمه مصداقا للقبح البشري في ذاكرة الشر منذ التاريخ الاسلامي وحتى يومنا هذا !
صورة مسخة للإنسانية في قبالة أعلى مصاديق الرحمة المحمدية أبي الأحرار ليحملنا استفهام السماوي الأخير على الاستفاقة والوعي من يقظة الاغترار والتضليل التي تمارسها الجماعة الضالة المتمثلة مصاديقها في النص.