قراءة تحليلية لسانية تقابلية.. أسامة الخولي ومعين الكلدي نموذجًا

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري

إِنْ هٰذَانِ لَشَاعِرَانِ

كنتُ قد أنبأتُ في الجزءِ الأول من هذا البحث أني سأتعرض لنصين من نصوصِ شعراء الآن مِمَّنْ ملكوا قيادَ البيانَ و امتطوا صهوة التبيان فقدموا الخير للغتنا بما جرى على لسانيهما ، و ما قصدتُ من وراء هذا مديحًا أو إطراءً و إنما قد وقع اختياري على نصيهما لمعاييرَ موضوعيةٍ ذكرتها في الجزء الأول و قد أنبأت أنني سأخوض غمار هذا البحث من خلال أربعة قطاعات ؛ أولها صوتي و ثانيها صرفي و ثالثها تركيبي و رابعها دلالي ، و أنبأتُ أني سأجري البحث في تلك القطاعات من خلال المنهج اللساني التقابلي .

و إني من خلال بحثي هذا أستغل شاعرين قد بلغا مبلغًا من النضج الفني و الصنعة المتقنة ما يجعل بناءهما الشعري نموذجًا يُحتَذىٰ و من خلاله أستطيع أن أجد أبنية صرفية صحيحة معافاة تعطي المدلول الصائب فأصبحت المباني على قدر المعاني بلا لبس و لا اعوجاج ، فكثير من الناصين لا يدركون الفروق الدقيقة بين أبنية الكلمات و أصبح جل همهم إقامة الوزن الشعري دون النظر إلى أوعية ألفاظهم الصرفية أكانت على قدر المعاني التي تحملها أم أضيق منها و ربما أوسع ، و تلك آفة كبرى ضربت كثيرًا من شعراء الآن ؛ حيث يقومون بِرَصِّ المباني حيثما أتى و اتفق دون النظر إن كانت قد أصابت موجة المعنى الذي اعتمل في نفوسهم أم لم تُصِبْ ، فنجد الموازين الشعرية منضبطة و المعاني مشوهة .

و سأضرب مثلا على ذلك بنموذج من عندي حتى يتضح للمتلقي ما أعنيه :

هَبْ أنَّك شاعرٌ و تصورت مشهد قتال يتصارع فيه اثنان و أردت أن تصور ذلك التصارع و أنت لا تدرك الفرق الدلالي بين بناء (صَرَعَ) و (صَارَع) و لا تدرك أن بنية (صَرَع) توحي بتحقيق الصَّرعِ دونَ عناء و أن ألف المفاعلة في (صَارَع) هي التي تحقق معنى المعاناة و الإطالة فأتيت بـ (صَرَعَ) و أنت تعني (صَارَعَ) ، هنا وقعت فيما أسميتُه سالفًا “التَّفَسُّخ النصي” ؛ إذ لم يوافق مبناك معناك فأسلمت المتلقي بناء مُشَوَّهًا يوحي له بغير ما عايشتَه ، إنك قد فسَّخْتَ المعنى عن المبنى و لم تصل للمتلقي بما تريد .

ثم هَبْ أنك عبَّرتَ بالمضارع من الفعل (أخذ) مستخدمًا همزة المتكلم فإنك ستكون بين أمرين :

* الأول ستقول (أأخذُ)

* الثاني ستقول (آخذُ)

إن كليهما في عين غير المختص واحد فما تم سوى مَدِّ الألفين الأول في الثاني و قضي الأمر .

و لكن غير المختص هذا حين يسمتع أحدًا ينطق ببنية الفعل الأول فإنه سيستشعر – لا واعيًا – بخشونة الأخذ و قوة الانتزاع في التعبير الأول و حين يسمع أحدا ينطق ببنية الفعل الثاني فإنه يستشعر بنعومة الأخذ و ليونته ، إذن ؛ حين قمنا بتحقيق تغيير في المبنى حدث تغيير في المعنى لا محالة ، استشعرناه و ما علمنا أساسه العلمي ، هنا يبرز دور الناقد المفسر لينبئنا بأن الذي أوصل إلينا الإحساس الأول إنما كان توالي الهمزتين اللتين حققتا خشونة في المبنى فانتقلت تلك الخشونة إلينا و بأن الذي أوصل إلينا الإحساس الثاني إنما كان مَدَّ الهمزتين و جعلهما حرفًا ممدودًا فانتقلت نعومة المبنى إلينا فشعرنا بنعومة الأخذ .

فالمتلقي يستشعر المعنى من خلال المبنى بفطرته العربية التي لا تضيع بين مغلفات و تشوشات التقادم الزمني و إن ما يفقده المتلقي هو السبب الذي دعاه إلى أن يشعر بهذا الشعور .

و قد يستشعر المتلقي نفورًا لا واعيًا من معنى سقط في نفسه مسقط الخشونة و وجد المتكلم أو الشاعر يأتي بالمبنى ناعمًا في امتداد بين الهمزتين ، و هنا يبرز أيضا دور الناقد المفسر ليبين للمتلقي العلة في استهجانه ذلك المعنى من ضعف ذلك المبنى .

و قد يعترضني سائلٌ ؛ لماذا تَشُقُّ على الشاعر فتطلب منه ما لا يُطاقُ ، فهل سيفرغ لإبداعه أم سيفرغ لمراعاة الأصوات و البِنَىٰ الصرفية و التركيبات النحوية و الإيماءات الدلالية ؟

أقول : ألا فاعلم أيها السائلُ “إن المعنى السليم في المبنى السليم” ، فإذا كان قد قالها أربابُ الرياضة “العقل السليم في الجسم السليم” فنحن – الشعراءَ – أولى بها فلن تنقىٰ فطرتك إلا بصحة بِنْيَتِك .

ثُمَّ ؛ إذا كنتَ أيها الشاعر تطمح أن تعتلي عرش إمارة الشعر و أن يُشارَ إليك بالبنان و تحيا كي تنتزعَ الآه المندهشِة من جمهور التلقي و النقاد ، فهل تريد الحصول على كل هذا دون عناء و شقاءٍ و كَدٍّ و كفاحٍ ! ثُمَّ ؛ ألستَ تشكو من الغبن و الإهمال و تنحيتك بينَ الظلالِ ! فلمَ لا تفرض قوتك و تبسط هيمنتك بقوة و اقتدار و ما هما سوى صنعةٍ مكينة تحمل فطرتك فتجوب بها الآفاق !

ثُمَّ فاعلم ؛ إذا كان هناك مسالكُ لغوية ثلاثة و أتقَنَتْ قريحتك اثنين فإنها ستسلك الثالث من تلقاء نفسها فصنعة الشعر تُنَقِّي القريحة و تجعلها قابلة لانتخاب المباني – مع الدُّربَةِ – دون عناء أو مغالاة أو مصانعة ، فإنك إن درَّبْتَ نفسَك على القِوامَة اعتادتها و إن هيأتَها للاستقامة سلكتها من تلقاء نفسها.

غاية الأمر ؛ فإنني إذا كنتُ في جزء تلك القراءة الأول قد قابلتُ بين القصيدتين بالمبنى الصوتي ، فإنني في جزئها الثاني سأقابلهما من خلال المبنى الصرفي ، و لستُ بحاجة أن أنبِّه أنني هنا لستُ بصدد المفاضلة بين الشاعرين أو النصين و إنما أنا بصدد تحقيق التقابلة لإبراز أدوات كل من الشاعرين في التعبير عن معناه من خلال انتخابِه مبناه ، و إن كان المنهج التقابلي من مهامِّه تحقيق المفاضلة و لكني أفضل أن يكون ذلك في مسابقات الجوائز لتقديم الحيث في المفاضلة فيكون حكم لجان التحكيم موضوعيا لا ذاتيةَ فيه و لا انطباعية .

 

تلك نكتة رئيسة بنيتُ عليها مفهوم (ظاهرة التفسُّخ النصي) التي عبرتُ عنها في غير موطن ؛ حيث ينفصل المبنى عن المعنى فنجد جمهور التلقي منفصلاً لا أراديًّا عن النصِّ و النَّاصِّ .

إنَّ أسامة الخولي و مُعِينًا الكَلَدِيَّ لشاعران حقيقيان و ما بنيت حكمي هذا على الخواء و إنما لعكوفي على ما أتيا من المعاني المارَّة لنا من خلال المباني صحيحة معافاةً تؤكد أنهما شاعران قد بنيا شاعريتهما على فطرة نقية أحيطت بصنعة عبقرية طارت و حلقت بتلك الفطرة إلى منتهى الآفاق .

و كي لا أطرق باب المديح سألج مباشرة إلى كل نص على حدة لنقف معًا على قوة ذلك السبك الذي أخذ القصيدتين إلى أبعد الآفاق .

يقول (أُسَامةُ الخُوليُّ) في قصيدةٍ له غير مُعَنْوَنِةٍ :

 

كادَ يحكي

غيرَ أنَّ الدمعَ شاءْ

ُّواصطفاهُ الرب

فصلًا للشتاءْ

 

كادَ يمضي

بيدَ أنَّ الدربَ وعْرٌ

كلُّ خطوٍ فيهِ يمشي للوراءْ

 

كادَ ينسى

إنَّما النسيانُ أطغى

أنْ يريحَ القلبَ منْ ذاكَ العناءْ

 

مستباحًا كلَّمَا يممتَ وجهًا

نحوَ ذكرى

لمْ تشاطرْكَ النداءْ

 

في أقاصي الوهمِ شيءٌ ليس يفنى

من حنينٍ

يمنح الناي البكاءْ

 

يا إلهي

كلُّ ما في الأرضِ منفى

فالتقطني

-إنْ تشأْ-

دونَ انحناءْ

 

ما وراءَ الصمتِ إلَّا

ما تبقَّى

منْ رمادٍ يستعيدُ الماوراءْ

 

أسلمتكَ الريحُ أرضا غير أخرى

والحبيباتُ

حكاياتُ المساءْ

 

كالثَّكالى

يتَّشِحْنَ الصبرَ لونًا

ليس في وسْعِ الحكايا أنْ تشاءْ

 

قاتَلَ اللهُ المرايا

بعنَ وجهي

صرنَ أغبى من طواحينِ الهواءْ

 

فالتقطني يا إلهي

ا

ل

ت

ق

ط

ن

ي

ليس ظلّي

إنما محضُ انزواءْ

 

كاد يعرى

إنَّما العينانِ سِترٌ

والأماني ماثلاتٌ للقاءْ

 

كادَ يهذي

غير أن الحزنَ وحيٌ

والنبيُّ الطفلُ أبهى إنْ أضاءْ

 

إنَّ أسامة الخولي هنا في حالٍ من رفض معاناته و الانفجار بشكوى الشاعر الذي يسكنه و هو يصطدم بالواقع الذي يقابله بما لا يرغب أو يتوقع منه ، إنه يريد أن يشكو و لكنه على يقين أن هذا الواقع لن يستمع شكواه فأقبل على الدَّمْع ثم تحول إلى الجمود و التحجُّر و كأنه فصل الشتاء ببرودته و ثقله ، و الإنسان لكثرة ما يلاقي دون أن يجد اكتراثًا تتبلد مشاعره تجاه واقعه المحيط إذا لم يكن يأبَهُ له ذلك الواقع .

 

كادَ يحكي

غيرَ أنَّ الدمعَ شاءْ

ُّواصطفاهُ الرب

فصلًا للشتاءْ

 

لقد بدأ (أسامة الخولي) قصيدته بالفعل (كَادَ) ، و الكثيرون منا يعرفون أنه فعل من أفعال المقاربة ، إلا أن الأغلب لا يدركون مدلول بنيته و لذا فسوف أذكرها حتى يكون ذكرها مفتاح إضاءة لقوة مدلولها في البناء الجُمْلي في نص أسامة و ذلك لتكرارها عند مطلع عدة دفقات شعرية داخل النص :

 

ورد في “مقاييس اللغة” لابن الفارس : (ك و د) : كلمة تدل على التماس شيء ببعض العناء ؛ يقولون “كَادَ يكود كودًا” و يقولون لمن يطلب منك الشيء فلا تريد إعطاءه “لا و لا مَكَادَة” فأما قولهم (كَادَ) فمعناها “قرب” .

و جاء في “اللسان” : كاد كَودًا و مُكاداة هَمَّ و قارَبَ و لم يفعل .

و أورد صاحب “المحيط” : و هذه اللفظة جِذْرُها يدل على المنع … الكَودُ المنع و كِيدَ كَودًا و مكاداة : قرب و لم يفعل …

 

إذن لم يكن أسامة الخولي ذلك الصلب الخَشِنُ الذي يراه كل من يعاملونه حادَّ المزاج ليبكي و إن هزمه واقعه و أحس هو مرارة تلك الهزيمة ، فهو لم يبكِ و لم يُرِدْ ذلك فقد اقترب بوجدانه الضعيف من شرفة البكاء و لكن صلابته منعته و كأن ذلك الواقع الذي يعانده أراد – بحسب مدلول بنية كاد – أن يُقَدِّم البكاء صارخًا من معاناته إلا أنه و هو على مشارف التلبية يمتنع و يعود إلى صلابته المألوفة عنده .

وقد تكررت بنية (كَادَ) لتعيد على أسماعنا ذات الدلالة و كأن أسامة الخولي ينكر ضعفه و يعيد و يكرر ليؤكد لنفسه ثم لنا أنه ليس هو البَكَّاء الشَّكَّاء الضعيف ، إنه يرفض بشدة الاعتراف بضعفه .

يقول (كاد يمضي – كاد ينسى -:كاد يعرىٰ – كاد يهذي) كلها جاءت بالـ “كَادَ” مُنْكِرًا إنكارًا شديدًا … ذلك أسامة الخولي الذي يعاني ما يعاني و يتألم ما يتألم و لكنه صلد متماسك لا يراه أحد ضعيفًا و برغم ذلك فهو ضعيف ، و الضعف خاصة إنسانية إلا أن عناده ينكر أن يظهر ذلك الضعف أمام الناس فهو “يَكَاد” يهم و لا يفعل .

إن كل إنسان يدمع و ليس كل إنسان يبكي و لما أراد أسامة الخولي أن يُظهر البكاء نسبه لغيره و جعل غيره هذا رمزًا لذاته ، جعل البكاء من الناي و ليس منه حين قال :

 

(من حنينٍ …

يمنحُ الناي البكاء)

 

سأقف على بنية البُكاء المصدرية و أعود إلى ما أخبرني به الصرف عن (البُكاء) :

 

جاءَ في “التفسير الكبير” للفخر الرازي : “الفُعَال : ما دلَّ على داءٍ أو صوتٍ كسُعَال و زُكام و صُراخ … و الفُعَال في أكثر الأمور يدل على مكروه أو مُنْكَرٍ “.

و جاء في “ديوان الأدب” للفارابي : (فُعَال للأدواء و الأصوات و ما تحطم من شيء و تكسر كحُطام و رُقاق) .. و أسامة الخولي قد أراد البُكاءَ داءً و صوتًا وتلك طبيعته الرافضة للضعف أو الظهور بمظهر الضعيف و إن ضعف …

يقول (ابن قتيبة) : “قالوا : و الأدواء إذا كانت على فُعَال أتت بضم الفاء بمثل : القُلاب – الصُّفَار – الصُّداع – الكُبَار – البُوَال – العُطاش – الهُيام … يقال عَطِشَ عَطَشًا و إذا كان العطش كثيرًا قالوا : به عُطاشٌ … و يقال قَاءَ يقيءُ قَيئًا فإذا كان القيء يعتريه كثيرًا قالوا قُيَاء” .

و جاء في “المُخَصَّص” : و يكثر فُعَال في الأدواء كقولنا السُّكات و البُوال و الدُّوار …. ” أ.هـ

فإذا وجدنا رجلا يسكت نقول سَكَتَ سَكْتًا و سُكوتًا و لكنه لا يكون سُكاتًا إلا إذا كان مصابًا بداء السكوت و كذلك بَكَى بَكْيًا و لكنه لا يكون بُكاءً إلا إذا كان داءً …

فأسامة موجوع وَجَعًا شديدًا و لكن كبرياءه يمنعه من أن يبكي فيكاد يحكي و يتألم لكنه لم يفعل و اكتفى بالدمع الصامت المخفي حين أراد أن يجهر بالدموع أتى بالناي رمزًا ثم وصفه بداء البُكاء كما عَبَّرتُ .

يقول :

 

(كاد يمضي بيدَ أن الدَّربَ وعْرٌ )

 

يقول اللغويون : إنَّ الاسم يفيد الثبوت و الفعل يفيد التجدد و الحدوث ، فإذا قلتَ “فلانٌ مُجْتَهِدٌ” أفاد ثبوت الاجتهاد له في حين أنك إن قلتَ “فلانٌ يَجتهد” أفاد حدوث الاجتهاد له بعد أن لم يكن ؛ و سِرُّ ذلك أن الفعل مُقَيَّدٌ بزمن في حين أن الاسم غير مقيد بزمن من الأزمنة فهو أشمل و أعم و أثبت .

وقد جاء في “الإيضاح” للقزويني : “و أما كون المسند فعلاً فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يكون مع إفادة التجدد و أما كونه اسمًا فلإفادة عدم التقييد و التجدد”

و قال عبد القاهر الجرجاني : “إن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئًا بعد شيء و أما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئًا فشيئًا ، فإذا قلتَ (زيد منطلق) فقد أثبتَّ الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد و يحدث منه شيئًا فشيئًا بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك (زيدٌ طويلٌ و عمر قصيرٌ) فكما لا يقصد ههنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجدد و يحدث بل توجبهما و تثبتهما فقط و تقضي بوجودهما على الإطلاق ، كذلك لا تتعرض في قولك (زيدٌ منطلق) لأكثر من إثباته لزيد . و أما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك ، فإذا قلت (زيدٌ هو ذا ينطلق) فقد زعمتَ أن الانطلاق يقع منه جزءًا فجزءًا و جعلته يزاوله و لا يُزَجِّيه .

فانظر إلى قوله تعالى “وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)” [البقرة] … فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية “آمنَّا” وخاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية “نحن مستهزئون” ؛ ليظهر من كلامهم أن الإيمان طارئ حادث فيهم و أن الاستهزاء إنما هو الأصيل الراسخ .

و بالعودة إلى الجملة التي استعرضناها عند (أسامة الخولي) لوجدناه حين وصف الشاعر وصفه بالفعلية “يمضي” و حين وصف الدرب وصفه بالاسمية “وَعْرٌ” فالشاعر أنما هو صامد صلب و الطارئ الحادث فيه هو الرغبة في المضي و الزوال إذ إن الثابت فيه ثبوت الأصل هو الرسوخ و أما الدرب فالراسخ فيه رسوخ الأصل الوعورة .

غاية الأمر فإن كل الأبنية الصرفية التي اتخذها (أسامة الخولي) أوعية لمعانيه كانت صادقة غاية في الصدق و قد جعلها أوعية ذات حبكة متينة للمعاني التي اعتملت في نفسه .

لم أشأ أن أطيل التفصيل في الأمر لسببين :

* الأول : كي أدفع الملل عن نفس المتلقي إذ إن البحث بعد تمامه وجدته طويلا جدا يصلح أن يدخل في إطار بحث مطبوع لا مجرد مقال ينشر على صفحتي .

* الثاني : أنني قد ضننت به مفصلا أن يعرض قبل أن أثبته بإحدى وسائل الإثبات المنشورة خاصة و قد وجدتني لم أقصر في حق المتلقي و كذلك الناقد المفسر في المقال المنشور هنا فقد وضعت يدهما على منهجية تحليل النص من خلال القطاع الصرفي .

———————————————–

و أما (مُعِينُ الكَلَدِيُّ) فيقول :

لم يَكتَرِثْ إنْ جَفاهُ مَن جَهِلَهْ

لم يَلتَفِتْ ..والزَمانُ أرَّخَ لهْ

.

.

لم تَعبأ الشَمسُ في سِواهُ وإنْ

عَبَّدَ دَربَ البُزوغِ مَن أفلَهْ

.

.

لم تُذبِل الآهُ عَزمَ أحرُفهِ

بل فُتَّقتْ في الجَمالِ بالعَجَلهْ

.

.

لأنّهُ الفَردُ لا شَريكَ لهُ

بالشِعرِ ..

يَشقى بِنارهِ السَفَلهْ

.

.

لأنّهُ التُبّعُ الذي انتهجتْ

بلادهُ القَتلَ ..

قَبلَ من قَتَلهْ

.

.

يَنالهٌ الصَمتُ ..

غيّبوهُ وما

جُبُّ القلوبِ الذي يُرى أمَلَهْ

.

.

على السُطورِ الكثيرُ رونَقهُ

والصِفرُ .. لا عابرٌ ولا نَقَلَهْ

.

.

كأنًّني اليُتمُ ..

هاكَ من لَعِبتْ

بمالِ قلبِ المَشاعرِ الأكَلَه !

.

.

كأنَّني عُزلةُ المُدانِ بلا

جرائمٍ ..

سِجنهُ بكى مُقَلهْ

.

.

برغمَ ذا ..

رَغمهم

أُمرِّغها

أنوف مَن كِبرُهم طغى جَدَلهْ

.

.

سأخلقُ الوردَ قَبلَ بِذرَتهِ

مِن طينةٍ بالمجازِ مُشتَمِلهْ

.

.

وأنسجُ الضوءَ بالمدادِ غدي

ليَصنعَ الشمسَ شاعراً بَدَلهْ

.

.

لم أكترثْ ..

عَبقرُ القَصيدِ معي

والليلُ ..

ذكرى حبيبنا

طَللهْ

تكاد تكون معاناة مُعِين هي نفس معاناة أسامة ؛ فمُعِين شاعر جحده مجتمعه و جفاه و لم يعترف به برغم جهل ذلك المجتمع قَدْرَه في حين أن الزمن قد أقر له بشاعريته و دهشتها و آهاته و إحساسه بالمرارة لم يلويا عزمَه بل زاداه إصرارًا على الإبداع و الإدهاش فهو شبيه تُبَّع الملك اليمني الذي آمن بموسى و جاب الأرض فتحًا و مُلكًا ثم قُتِل على يد الزير سالم كما تدعي الأسطورة ثم تستطيل شكواه من الجحود و الإهمال و إنكار قومه له …

لقد توازى (مُعِين الكَلَدِي) مع (أسامة الخولي) في إحساس الشاعر الكامن في كل منهما بالظلم و الغبن ثم افترقت شخصية كل منهما عند التعبير فانفرد كل منهما بأدواته .

و لأنني هنا في معرض التحليل من خلال القطاع الصرفي فإني سأسير نفس سيرتي في تحليل نص أسامة فبنية نص معين الصرفية لا تقل عن مثيلتها عند الخولي في حمل موجات المعاني إلينا بدقة و قوة و كأنه قد حاكها حياكة الصناع المهرة فجاءت المباني بمقاسات المعاني و كأنها قد حيكت خصيصًا لها .

(لم يكترث إن جفاه من جَهِلَه

لم يلتفت ، و الزمان أرَّخَ لهْ)

مشهدان ؛ الجهل و الجحود من قِبَل واقع مجحف .. أمامه اللامبالاة من شاعر واثق من شاعريته .

(جَهِلَ) ، (أَرَّخَ) : بِنْيَةُ الفعل ثلاثي الجذر منها ما هو مجرد و منها ما هو مزيد ؛ و البنية المجردة – على الأغلب – تعطي دلالة الحدوث بالسجية ، فإنك إن قلت (ضَرَبَ) فلا معاناة في إحداث الضرب ، و كلما زدتَ في المبنى أتت الإضافة في المعنى ، فإن قلتَ (نزل) فقد أحدث الحدث بدون مصاحبة المعاناة و إن زدتَ و قلت (أنزل) فهناك إكراه في إحداث الحدث و إن زدتَ و قلت (نَازَلَ) فهناك معاناة و مطاولة في إحداث الحدث ، و إن ضاعفت و قلت (نَزَّلَ) فقد أحدث مبالغة في تحقيق الحدث …. إلخ .

و من هنا جاء الفعلان (جَهِلَ) و (أَرَّخَ) فالجهل يُرِي صاحبه الصعبَ سهل من شدة جهله ، و هذا الواقع الجاهل ينظر إلى الشاعر القابع داخل مُعِين الكَلَدِي باستخفاف على ضخامته التي يستشعرها صاحبه لذا فقد (جَهِلَ) و أما الزمان فلإدراكه ضخامة حجم هذا الشاعر فهو يبالغ في التأريخ له و يبذل قصارى جهده في تسجيله لما يحمل من ثِقَلٍ فجاءت بنية “أَرَّخَ” مضاعفة الوسط . و ذلك الشاعر (لم تُذْبِلُ الآهُ عَزْمَ أحرُفِه) … فـ (تُذْبِلُ) من أَذْبَلَ … هنا تبرز القوة و المقاومة فهمزة التعدية في “أَذْبَلَ” تحمل لنا مدى ضغط “الآه” عليه لإكراهه على الذبول و لكنه مقاومته أشد من الانتكاس أمام ذلك الضغط الهائل (بَلْ فَتَّقَتْ في الجمال بالعَجَلَةْ) و كأن كل ذلك الإكراه في محاولة إذباله واجهه مقاومة عنيفة مبالغ فيها في”فَتَّقَتْ” المضاعفة عينُه التي هي التاء .

(لأنه الفرد لا شريك له … بالشعر يشقى بنار السَّفَلَةْ)

و مُعِين الكَلَدِي في حال من الذهول فكيف شاعر بكل تلك الضخامة يتغلب عليه قلة قليلة تافهة كأولئك الذين يُشقُونه ، فجاءت صيغة الجمع دالة دلالة بالغة على تفاهة أولئك الذين يطمسون المشهد الإبداعي و هم قِلَّةٌ فجاء جمع التكسير (السَّفَلَة) تهوينًا من شأنهم و تسفيهًا .

و المعروف أن الجموع في العربية على نوعين ؛ جمع سالم و جمع تكسير ، و جمع التكسير له أوزان كثيرة تبلغ سبعة و عشرين وزنًا و قد يكون للاسم الواحد عِدَّة جموع مثل (كَافِر) “كُفَّار – كَفَرَة – كَافِرين” و قد استعمل القرآن الكريم تلك الجموع بدلالاتها المختلفة ، و من هذه الجموع ما يدل على القلة و منها ما يدل على الكثرة و من أمثلة القِلَّة (أَفْعُل) كأَشْهُر و (أَفْعَال) كأشْيَاخ و (أَفْعِلَة) كأَغْرِبَة و (فِعْلَة) كفِتْيَة و زاد الفَرَّاء (فَعَلَة) كقولهم “هم أَكَلَة رأس” أي قليلون يكفيهم و يشبعهم رأس واحد .

هنا فقد اختارت فطرة معين الكلدي النقية جمع الفَعَلَة “يشقى بنار السَّفَلَة” فمناط العجب عنده أن كل ذلك الشقاء إنما أتى من تلك القلة التافهة التي أحدثت كل تلك الجلبة و كل ذلك الضجيج الذي أضاع المعادن النفيسة و الأصوات الرخيمة .

(برغم ذا رغمهم أُمَرِّغُها … أنوفَ مَنْ كِبْرُهم طغىٰ جَدَلَه)

(أُمَرِّغُها) عاد إلى المبالغة في الحدث فضاعف عين الفعل و كأنه – على صمته و هدوئه الظاهرين – يحمل في داخله براكين الغضب التي ستجعله ينتقم من هؤلاء السَّفَلَة بتمريغ أنوفهم المتكبرة .

(لَمْ أكترثْ .. عَبْقَرُ القصيد معي … و الليل .. ذكرى حبيبنا طلله) …

يختتم باللا اكتراث كما افتتح باللا اكتراث ليؤكد أن هدوءه و صمته الظاهرين ما كانا سوى ثقة في قوة و قدرة شاعره الذي يقبع داخله و إنه لمنتصر و لو كره الكارهون .

إن بحثي هذا استطال في التدقيق الصرفي في كل شاردة و واردة في النصين حتى بلغ حجمه خلال عدة الأيام التي اعتكفت عليه فيها مبلغًا إن أردتُ طباعته لأصبح كتابًا و لكني اختصرته ها هنا دفعًا للملل عن المتلقي ثم رغبة في الاحتفاظ ببعض أسرار و مكامن الإبداع عند الشاعرين لعلَّني يومًا أخرجه إلى النور .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى