الصعلوك السياسي.. قراءة أيديولوجية في نصوص الشاعر اليمني (عمار الزريقي)

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

“العُنوانُ مِفتاحُ المُعَنْوَن” لهذا أصررت أن يكون عنوان بحثي هذا “الصعلوك السياسي” .

إن دافعي الأكبر وراء بحثي هذا يكمن تحت كون (عمار الزريقي) الشاعر اليمني ظاهرة نصية أيديولوجية في عالمنا العربي الآني تفور وتمور تحت سطح بنيته النصية المبدعة تستحق وقوف وعكوف البحاث طويلا لملامسة مضفورها الفكري .

ليس لكونه شاعرا مطبوعا مجيدا جمع التلقائية والحرفية الشعرية فحسب وإنما لكونه صاحب أيديولوجية خاصة تحمل سمات فكر يفتقر إليه النص العربي في أواننا هذا ؛ إذ التف أغلب المبدعين العرب حول محور الاهتمام بضبط موسيقى الشعر العربي ونحوه وصرفه مهللين بموجاتهم الوجدانية الصارخة المفرطة في الذاتية وكأن الشاعر ليس معنيا بجمهور يقرؤه ويتلقى منه ، والعجب العجيب أن تجد هؤلاء الشعراء يصرخون ويشكون انصراف الجمهور عنهم .

لقد عبرت في غير موطن أن الشاعر وهو ينتقل بين مراحل النضج الشعري يبلغ عتبة من النضج نستطيع أن نطلق عليه لقب”شاعر أيديولوجي” وهي العتبة التي يصل الشاعر فيها إلى تكوين وجهة نظر ينطلق منها لمواجهة واقع القصيدة بل مواجهة واقعه الشعري جملته أو أغلبه وقد عرفت الأيديولوجيا بأنها”مجموع القيم الراسخة في ضمير الفرد أو الجماعة والتي تنطلق في ضوئها أحكامه على تفاعلات الواقع من خلال معطيات تلك القيم” .

وحتى أكون محدد الخطى واضح الطريق متجنبا المراوغات الكلامية موضوعيا- كما أدعي لنفسي – كان لزاما عليَّ أن أحدد المنطلقات الأيديولوجية التي ينطلق منها عمار الزريقي في مضمون خطابه الشعري

إن النص الشعري عند عمار الزريقي مُؤَسَّسٌ على ثلاثة مرتكزات تكون في مجملها مجموع القيم الراسخة في ضميره فتنطلق في ضوئها أحكامه على تفاعلات واقعه من خلال معطيات تلك القيم هي :

١- فكرة الصعلكة .

٢- فكرة الاحتفالية .

٣- القيم الثورية المتفجرة من ثورة ٢٦ سبتمبر ٦٢

إن القارئ العادي لنصوص (عمار الزريقي) لا يكاد يرى حدود تلك المرتكزات الثلاثة كلا على حدة وإن كان يستشعر موجة فكرية قوية وتفردا فلسفيا يكمن في نسيج نصه الإبداعي لأنها جميعا – عند الزريقي- قد انصهرت انصهارا طبيعيا لا افتعال فيه لتخرج لنا ذلك الكائن النصي الذي نستشعر مذاقه المتفرد دون أن ندري مصادر ذلك المذاق . لذلك فنصوص عمار الزريقي في حاجة إلى قارئ متمرس متفحص يستطيع أن يمسك يد القارئ المتلقي ليضعها على تلك العروق الثلاثة .

إن الزريقي له أيديولوجية خاصة أستطيع آمنا أن أطلق عليها “الأيديولوجية العَمَّاريَّة” . وخلال المساحة الآتية سوف أقف على أسسها الثلاثة محاولا مع القارئ بلوغها دون أن نشوه النص ونفقده متعته الجمالية .

قلت إن عمار الزريقي بنى أيديولوجيته على ثلاثة أعمدة رئيسة تداخلت في نسيجه النصي هي :

 

الأولى فكرة الصعلكة:

الصعاليك اسم يطلق على جماعة من العرب في عصر ما قبل الإسلام عاشوا أو أطلقوا حركتهم في جزيرة العرب ولم يكن لهم انتماء قبلي بل تمردوا على سلطة القبيلة وواجباتها فطردوا من قبائلهم وأكثرهم شعراء عُدَّتْ قصائدهم من عيون الشعر العربي .

وقد أوضح الدكتور (شوقي ضيف) معنى الصعلوك لغة ؛ بأنه الفقير الذي لا يملك المال الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة مؤكدا أن هذه اللفظة قد تجاوزت دلالتها اللغوية وأخذت مدلولات أُخَرَ كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب والنهب؛ إذ تقوم منهجية الصعاليك على فكرة غزو القبائل بغرض الأخذ من الأغنياء وإعطاء الفقراء أو المنبوذين ولم يعترفوا بالمعاهدات أو الاتفاقيات بين قبائلهم والقبائل الأخر وبالتالي عاشوا حياة ثورية تحارب الفقر والاضطهاد وتسعى للتحرر في شكله المتمرد . [ينظر العصر الجاهلي من موسوعة تاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف]

ويبدو أن (البردوني) في كتابه”اليمن الجمهوري” له رأي آخر مستمد من مفهوم الصعلكة في المجتمع اليمني القديم إذ يرى أن فكرة الصعلكة قد اتخذت مفهوما مغايرا فيؤكد أن الفرد الذي يختلف مع قبيلته أو قريته أو يقطع صلته بها ويلتحق بقبيلة أخرى تدفع عنه ضريبة فرديته أو ضريبة عداوته لقبيلته يسمى (ربيعا) ؛ لأنه طلب السكنى في مربع قبيلة أخرى.

ولكن بدا لي أن (عمار الزريقي) رأى رأيا ثالثا متمثلا في إلباس الصعلكة ثوبا سياسيا يدفعني إلى تسميتها آمنا مطمئنا بـ “الصعلكة السياسية” يقول :

لا عيد للصعلوك إلا يومه

وألذ ما في يوم عيدي نومه

هي سيرة الصعلوك تقضي أنه

يعرى ويسغب حين يشبع قومه

فاقسم لعيدك فرحة من عيده

والنوم أحمد إن تعذر صومه

إنه يعترف بصعلكته من خلال كوميديا سوداء يعكس بها حال الواقع اليمني فيرسل برسالة تهنئة لأصدقائه معبرا عن سخطه على حالة البطالة التي يعانيها الشباب اليمني إذ يأتيه العيد وهو لا يملك إلا النوم احتفالا . إن الزريقي لشدة اعتناقه فكرة الصعلكة أخرج ديوانا شعريا لها ليؤكد بذلك أنها إحدى أهم ركائزه الأيديولوجية . ولكن صعلكته صعلكة سياسية في مقامها الأول وإن لم تبعد كثيرا عن أصل الصعلكة العربية القائمة على التشرد والتمرد . يقول مجيبا نفسه :

خرجتَ عن المألوف؟ لا بل ألفتُه

أليس خروجا؟ تلك أغبى وشايةِ

فما أبدع الرواد إلا تَسَوُّلاً

عليَّ … على ما عفتُه من نفايتي

تسأله نفسه فيؤكد لها أنه خرج عن كل الأعراف بل اعتاد الخروج وألفه ولشدة إعجابه بهذا الخروج يراه النموذج والمثل الذي يحتذيه كبار المبدعين والنقاد الذين أبدعوا استنادا عليه .

وحقيقةً نقرها أن حياة الصعلوك جد عسيرة لما يحيطها من إنكار الجميع والظهور دائما بمظهر الشاذ عن القاعدة الذي لا ينتظم في عقد مجتمعه البشري ومن ثم فهو في حاجة ملحة إلى ترديد فخره بنفسه ومحاولة إظهارها النموذج المثالي للحياة حتى يرضى عنها ويواصل مسيرها كنوع من أنواع التعويض النفسي فنراه يؤكد في تلك القصيدة أنه يفوق كل المبدعين بمنهجيته القائمة على الصعلكة تلك التي جعلت منه بطلا بنى بطولته على قدراته المنفردة وأن جميع (المتفذلكين) قد بنوا نجاحهم استنادا على قوته .

والصعلوك يتميز بخفة الظل محاولا التخفيف من وطأة صعلكته على جمهور التلقي فهو يعلم أن سلوكه فظ خشن … وها هو في معلقته (الفيسبوكية) التي أسماها “معلقة امرئ الفيس” يعني”فيس بوك” توازيا مع معلقة”امرئ القيس” فلعب على وتر التناص بمنتهى البراعة وما الفرق بين (القيس) و (الفيس) إلا نقطة … يقول :

خليليَّ مُرَّا بي على أم جندب

لتكتب لي أمرا بصرف المرتب

فقد فاجأتني قبل عام بنكزة

أطاحت بجوالي وعاثت بـ “لابْتُوبِي”

وأنشدتها في ليلة العيد زاملا

له كنه صعلوك وإيماء معجب

إنه ورغم ما تحمله القصيدة في بقيتها من هجوم سياسي عنيف سأعرض له في ركيزته الأيديولوجية الثالثة إلا أنه قد استهلها بخفة ظل رقيقة مخففا وطأتها على المتلقي وما ستحمله من مضمون سياسي عنيف .

***

الثانية فكرة الاحتفالية:

المطالع لنصوص (عمار الزريقي) يحاول جهد المحاولة أن يفصل بين صعلكته واحتفاليته فلا يكاد يظفر بطائل ، لشدة التصاقهما وامتزاجهما داخل النسيج النصي عنده ومن ثم فإن عملية الفصل تحتاج مبضعا ماهرا لا يخطئ التشريح فيشوه النسيج النصي .

ولكي أخوض تلك التجربة وجب علي أن أستعرض منهجية الاحتفالية كما أسسها (ميخائيل باختين) الروسي ثم أعرج على نصوص الزريقي محاولا وضع يد القارئ المتلقي على خيوطها داخل النسيج النصي للزريقي .

إن ميخائيل باختين قد أقام الأيديولوجية الاحتفالية على فكرة أن لكل مجتمع تقاليده وأعرافه السائدة المقيدة التي تحكم سلوك أفراده وتحركهم من خلالها … ولكن هذه التقاليد والأعراف مرهقة تحكم النزعة العشوائية داخل الإنسان وتسيطر عليها ومن ثم فإن الإنسان الذي ينتظم في عقد ذلك المجتمع في حاجة إلى الخروج عن تلك الأعراف وتحطيم قيودها ومقدساتها السلوكية .

من هنا نشأ مفهوم الاحتفالية Carnivalism . لقد مارست معظم الشعوب في معظم العصور هذه الاحتفاليات في مواسم الزراعة والحصاد وتحولات الفصول وأعياد القديسين والمناسبات الدينية أو الوطنية ولا نبالغ إن قلنا إن هذه الاحتفاليات هي المهد الذي ولد فيه المسرح الإغريقي.

وقد تولدت فنون التهكم والسخرية والفكاهة والهجوم الانتقادي من هذه الاحتفاليات ؛ إذ كانت التقاليد والأعراف المتوارثة تسمح بهذا الخروج عن التقاليد فيستمتع المشاركون فيها بعطلتهم بعيدا عن الواجبات والمسؤوليات وينطلقون في حالة من النشوة والعربدة وقد تستمر هذه الاحتفالية عدة أيام وينتهز المشاركون هذا النوع من التسيب أو التجلي للسخرية من المتسلطين عليهم والمتحكمين فيهم سواء أكانوا من الملوك الأباطرة أم الأفراد أم النبلاء أم رجال الدين الذين كانوا يسمحون لهذه الظاهرة كنوع من التنفيس عن المكبوت داخل النفوس خاصة أن الأمور كانت تعود إلى مجاريها المعتادة وسيرتها الأولى بمجرد انتهاء هذه الاحتفاليات .

من هنا نشأت فكرة السخرية من المقدس المجتمعي ومن هنا رصد (باختين) الروسي تلك الظاهرة الاحتفالية ولفت نظر النقاد إلى أهمية هذه الاحتفالية المحملة بالمعاني والدلالات الإنسانية والشعبية والتي لا يمكن حصرها نظرا لعشوائيتها وتلقائيتها … وقد نبه إلى أن الفنون والآداب المعاصرة تسعى إلى استلهام هذه الأشكال الاحتفالية بكل تلقائيتها وعفويتها وعشوائيتها ؛ كي تحطم بها القيود والقوالب التي يمكن أن تعوق تطورها وانطلاقها … وكأنها بذلك تحاول الرجوع إلى منابعها الأولى الصافية حتى تجدد حيويتها ، فكان من نتيجة ذلك ظهور تيار ما بعد الحداثة . لقد استلهم باختين مفهومه حول الاحتفالية أو الكرنيفالية من خلال دراسته لروايات (ديستويفسكي) ثم قام بتطبيقه عليها من خلال ثلاثة معايير :

(الأول) أن الحاضر الحي المعيش بالفعل هو القاعدة التي ننطلق منها لفهم الواقع الراهن وتقييم معطياته وتشكيل ملامحه ؛ ذلك أن الماضي ليس من قضية الاحتفالية برغم أن جذورها تكمن فيه .

(الثاني) أنها لا تعتمد على الأساطير والخرافات والتهاويم لأنها تتخذ من التجارب الحية والخبرة المعيشة مصادر للابتكار الحر والإبداع الذي يستكشف الآفاق الجديدة .

(الثالث) أنها ترفض التوجه الأحادي الجانب والفكر المفروض على العقل البشري ، فهي ترحب بتعدد الأساليب واختلاف الأوساط مهما بلغ التضاد أو التناقض فيما بينها وفي هذا تكمن حيويتها وخصوبتها وتجددها .

وفي كتابه”الخيال الحواري” يؤكد (باختين) أن الاحتفالية تتيح للطاقات الدفينة في الطبيعة البشرية أن تكشف عن نفسها بلا مواراة أو زيف ، وذلك بخروجها عن الأنماط والقوالب السائدة. فليست لديها حساسية إذا اتهمت بالشذوذ .

ويرى باختين طاقة روحية ونفسية في الاحتفالية في إمكانها أن تغير العالم وأن تدفع الناس إلى آفاق جديدة لم يبلغوها من قبل ويعتبرها أيضا تمردا تمثيليا على الأوضاع القائمة من جانب العناصر الدنيا من البشر الذين ينغمسون في لحظة التمرد في ملذات الجسد من طعام وشراب وغيرهما… ولكنها لا تهدم القيم الأخلاقية الراسخة لأنها لا تعدو أن تكون مجرد تجاوزات مؤقتة واختراقات عابرة تنفس عن الكبت الذي يتراكم مع الأيام وفي الوقت نفسه تعري الواجهات المزيفة للمجتمع المهذب المغرم بالمظهر على حساب الجوهر.

لقد حدد باختين الأدوات المستخدمة في تحقيق هذا الهدف بأنها تتمثل في :

 

١- السلوك الغريب الخارج عن المألوف .

٢- التنكيت اللاذع والمحاكاة الساخرة .

٣- إبدال الدنيوي بالمقدس .

٤- الهبوط بالمحترم إلى مستوى الحقير .

أو باختصار فإن الاحتفالية تقوم بقلب الأوضاع المعتادة رأسا على عقب حتى تبدو في ضوء جديد تماما .

ويبدو أن الاحتفالية الباختينية قد راقت لـ (عمار الزريقي) نتيجة مناسبتها للصعلكة التي بنى عليها أيديولوجيته كأساس أول وكذلك لقدرتها على التعبير عن تلك الصعلكة بأدوات هي الأنجح والأجدى . يقول عمار الزريقي :

سلطاتك يا سيدتي

هي أعلى وأهم السلطات

شرعية عينيك هي الأقوى

من بين جميع الشرعيات

ونفوذك أقوى من سفراء الدول الخمس

وثوار الساحات

وملوك الجمهوريات

فإذا كانت الاحتفالية تعتمد أدواتها على إبدال الدنيوي بالمقدس ثم الهبوط بالمحترم إلى مستوى الحقير فإن عمار الزريقي أسقط كل الشرعيات وكل رؤساء الجمهوريات وأبدل لحظة شهوة دنيوية بهم جميعا فجعل من الحقير أعلى مستوىً من تلك المقدسات المجتمعية المحترمة زيفا .

وإذا كانت الاحتفالية تعتمد على التنكيت اللاذع فقد أطلق لقب”ملوك الجمهوريات” ساخرا من أولئك الذين تحنطوا على كراسي حكمهم في الجمهوريات العربية محولين إياها إلى ملكية تورث ويبقون هم حتى نهاية أعمارهم .

وإذا كانت الاحتفالية تمردا تمثيليا على الأوضاع القائمة من جانب العناصر الدنيا من البشر الذين ينغمسون في لحظة التمرد في ملذات الجسد من طعام وشراب وغيرهما… فإن عمار الزريقي قد ذهبت هذا المذهب يقول :

نهداك إن قاما بعاصفة

لا شك منتصران يا أمل

الأيمن الميمون. مكتنز

والأيسر الميسور مكتمل

 

وهي عنده لا تهدد القيم الأخلاقية الراسخة- بحسب باختين- لأنها لا تعدو أن تكون مجرد تجاوزات مؤقتة واختراقات عابرة تنفس عن الكبت الذي يتراكم مع الأيام… ومن يعرف عمار الزريقي عن قرب يدرك أن هذه ليست إلا تجاوزات كلامية…

إن عمار الزريق يرفض الفكر المفروض على العقل البشري شأنه شأن كل شاعر احتفالي إذ يرحب بتعدد الأساليب واختلاف الوسائط مهما بلغ التناقض فيما بينهما .

***

الثالثة القيم الثورية المتفجرة من ثورة ٢٦ سبتمبر ٦٢:

إذا كانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر قد وضعت أهدافا عملت على تحقيقها وبرغم وضوح تلك الأهداف إلا أنها قد ووجهت بعثرات ومازالت تقبع على بركان ثوري ينتظر أن تستقر وتمسك مقاليد الحكم فتحقق كل أهدافها .

ويجيبنا الفيلسوف اليمني الكبير (البردوني) عن السؤال المشروع “لماذا؟” في كتابه”اليمن الجمهوري” بأن طبيعة الشعب اليمني قتالية تقوم على الجرأة وسرعة الاستنفار نتيجة لأية شرارة مستفزة لكبريائه يقول :”إن القرن العشرين جاء من مئات القرون غير أن فلسفة أحداث هذا القرن تطبعه بسمات مختلفة عن العصور السوالف وإن كانت من عصير تمخضاتها ، فلم تكن حربنا ضد الاحتلال التركي كحروب (يام) و (مراد) ومع هذا فإن حروبنا التحريرية متصلة قتاليا – بطابعها القبلي والاقتصادي- بنزاعتتنا العشائرية ؛ لأن العراك العشائري على تتابع الزمن استبقى في أجيالنا روحية الجرأة وسر التحفز للقتال عند صيحة كل طارئ ، لهذا لم تختلف إلا وجهة القتال لا روحية الوراثة وهذا ما يَسِمُ اليمن بالفرادة في نضاله الوطني” والشعب اليمني لا يعرف الثورة السلمية أو المقاومة السلبية فهم دائما إذا ثاروا تكون ثورتهم بالسيف والرمح ومع تطور الزمن بإطلاق النار… يقول البردوني :”لقد لاقت الشعوب الأخرى الحملات التركية بكثير من الاستسلام وبالقليل من المقاومة السلبية ولا سيما في أول عهدها كالمظاهرات ورفع عرائض الاحتجاج إلى الوالي على حين تلقى شعبنا الاحتلال العثماني الثاني بقذف الحجارة وطعن الرماح وضرب السيوف ثم بإطلاق النار غير معتمد على المدد الإنجليزي والتخطيط اللورنسي” ثم يؤكد ذلك بالمقارنة يقول :”ألا تتضح الفروق بين قتال اليمنيين للعثمانيين وبين مظاهرة (عمر مكرم) أول القرن التاسع عشر بمصر؟” فربما تلك الطبيعة القتالية هي التي دفعت إلى تعثر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وتعطل امتلاكها للحكم وانطلاقها باليمن لتحقيق أهدافها وكذلك التدخل المستمر من الجيران يقول :”هنا تبدو قسمات الفروق بين الثورة اليمنية وسواها ، كل الثورات العسكرية التي تفجرت في تلك الفترة أنهت مهمتها القتالية بإذاعة أول بيان من مذياع العاصمة أما ثورة سبتمبر اليمنية فإن إعلان أول بيان كان بداية لحرب ثورية وتبييت نية العدوان عند الجيران ومن وراءهم” … ثم يؤكد البردوني على ذلك بقوله:”بعد جلاء العثمانيين أواخر العقد الثاني من هذا القرن ظلت نزعات القتال مشبوبة الأوار ولكن مختلفة الغاية فلم تكن عشائرية خالصة وإنما وطنية ذات عصبية لإقامة الحكم الوطني الأفضل كبديل عن المحتل” … ومع ذلك فقد ظلت أهداف تلك الثورة كامنة في نفوس الطبقات المثقفة الطامحة إلى تحقيق أهدافها وإقامة الجمهورية اليمنية المستقرة والمستقلة .

لقد بدأ الخط الثقافي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر يتصاعد منذ أوائل الخمسينات ، فتلك فترة تداعي السلطة الحاكمة وتصاعد المد الشعبي الثوري وانتشار ثقافة الثورة بين المثقفين. يقول البردوني :”من هنا استحدث ثقافة ثورية تستقرئ الثوار في العالم فحاول مثقفونا استيعابها لأنها فهمتهم وعبرت عنهم فأرادوا أن يفهموها ويعبروا عنها” .

وعمار الزريقي واحد من هؤلاء المثقفين اليمنيين الذين تبنوا أيديولوجية تلك الثورة وهو من أشد المحاربين ضراوة أملا في إمساك تلك الثورة لمقاليد الحكم في اليمن لأنها الوحيدة القادرة على توحيد اليمن وإطلاق الجمهورية الجديدة نحو المستقبل .

لذلك نجد الزريقي ناقما أشد النقمة على كل من يقف حجر عثرة أمام أهداف تلك الثورة حتى وإن كانوا من العسكريين أنفسهم يقول مجاريا نزار :

علمني حبك سيدتي أربع حاجات

علمني أكفر برجال الثورات

وعيون البوليس

وألوية الجيش

وعُقَّال الحارات

أن ألعن أنصار الشرعية

وعلوج الأحزاب

وضباط الأمن

وقطاع الطرقات

وأحطم أصناما ما زالت تحكمنا منذ مئات السنوات

وأبول على كل وجوه الآتين إلى الحكم

على ظهر جنازير الدبابات .

إن المحبوبة هنا تحمل رمزية اليمن وهو يحاول موازاة نزار فيعلن لمحبوبته أنه ناقم على كل من وقف عثرة في طريق تحقيق مبادئ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر حتى وإن كان من رجالاتها أنفسهم . ثم يكمل في مقطع آخر قائلا :

علمني حبك أن أنسى ترتيب القنوات

أن أنسى أخبار الـ (بي بي سي)

وجميع مواعيد النشرات

أن أغلق أذنيَّ وقلبي وعيوني في وجه الشاشات

ألا أتفاءل إطلاقا في أي ربيع عربي لا يؤمن…

بربيع الورد

وموسيقى القبلات

أن أشعل قلبي مصباحا

لينير بحار الظلمات

عمار الزريقي لا يولي وجهه سوى شطر اليمن، اليمن الجمهوري، اليمن الذي يحلم به كل مثقف يمني، إنه اليمن الحر ثم يستمر الزريقي قائلا :

علمني حبك أن أتناسى صفحات الساسة

ورموز السينما

والمسرح

وكبار الشخصيات

علمني ألا أهتم بأخبار الصحف

ولا دور النشر

ولا آخر ما ينزل في السوق من الموضات

أو الإصدارات

علمني ألا أتعقب أخبار مشاهير الفنانات

أن أبصق بالطول وبالعرض على منشورات

العسكر وبيانات الأحزاب

وألغي إعجابي بالصور المنشورة في صفحات الحسناوات

إن عمار الزريقي قد ألغى كل شيء كان يهتم به ولم يعكف إلا على محراب محبوبته ، إنها الوحيدة النابضة بالإنسانية وكل ما عداها حيوانات ذلك هو الختام الرائع للقصيدة :

علمني حبك

أن

أنسى

أسماء

جميع

الحيوانات

إنه يهاجم وبمنتهى الضراوة وبنفس طبيعة اليمني القتالية كل من تسببوا في تعثر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر يقول في قصيدته “معلقة أمرئ الفيس” :

وأنشدتها في ليلة العيد زاملا

له كنه صعلوك و إيماء معجب

وقلت لها إني على الجوع صامد

وفاءً لمولاتي وحبا من الصبي

ألا ما نبالي.. ما نبالي ولو بكت

زوامل”بكر” من صواريخ. “تغلب”

ولو دخلت”طهران” في بطن أمها

وطار”المخا” ليلا إلى قلب”يثرب”

ولو غادر”النعمان ” إيوان”كندة”

وقام عليها”شرحبيل بن يحصب”

ولو أنفذ”المخلوع” ما في رصيده

أو استأجر”الدنبوع” سيفا لـ “مأرب”

ولو خرج”الحجاج” عن أمر ربه

وأصبح منقادا لأمر”المُهَلَّب”

ولو عاد يوم السبت يدعى إجازة

أو احتكمت ضحيان كرها لشرعب

ولو أنبتت”كرمان” في القاع كرمة

أو اعتصم الثوار في باب مكتبي

ولو هادنت”صنعاء” عشرين ساعة

وخزَّن”ولد الشيخ” فيها”بأرحبي”

ولو صار حرف العين عينا لهمزة

وأصبح للتوكيد معنى التعجب

ألا ما نبالي ما نبالي فبكري

إلى سوقك السوداء يا”عترة النبي”

وما الدعم والمجهود إلا وصية

من الشيخ”ذي القرنين عبد المطلِّب”

قد تبدو الأسماء الواردة لغير اليمنيين طلسما ولكنها رموز يفهم اليمنيون مرماها جيدا ولن أخوض في تفصيل ما ترمز إليه حرصا على الخصوصية اليمنية ثم حرصا على عدم الخوض في الشأن السياسي لأي شعب عربي احتراما لتوجهات أبنائه .

لكنني أستطيع أن أقول إن عمار الزريقي قد قلب الطاولة على الجميع ، كل من مثل عائقا أمام تحقيق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر أهدافها .

غاية الأمر فقد حاولت خلال بحثي هذا أن أقف على الأيديولوجية التي ينتهجها عمار الزريقي مضفورة في نسيجه النصي بثلاث ضفائر غاية في التشابك غاية في الانصهار برغم بروزها واضحة مجتمعة فوضوحها وضوح المنصهر غير القابل للفتل والإفراد.

إن المتابع العادي لعمار الزريقي يظن حين يقرؤه أنه يتلقى الشعر من شخص منفلت سلوكيا إلا أنه حين يقرأ بحثي هذا سيوقن أنه أمام شاعر ذي أيديولوجية محكمة تنطوي تحت عنوان (الصعلوك السياسي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى