إضاءات على خطبةٍ الإمام علي: يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ
حسام عبد الكريم | كاتب و باحث من الأردن
هذه خطبة مشهورة للامام علي بن أبي طالب ألقاها في ظاهر الكوفة سنة 40 للهجرة. وهي تعتبر واحدة من أعظم وأروع الخطب في التراث العربي/الإسلامي التي قيلت في الحض على الجهاد والدعوة إلى التصدي للأعداء:
أَمَّا بَعْدُ فَإنَّ الْجِهَاد بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللّهُ لَخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللّهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ. فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ الْبَسَهُ اللّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمْلَةَ الْبَلاءِ. وَدُيِّثَ بَالصِّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بَالأسْدَادِ وَ ادِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصْفَ.
ألا وَإنِّى قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى قِتَالِ هوُلاءِ الْقَومِ لَيْلاً وَنَهَارا، وَسِرا وَإعْلانا، وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْزُوكُمْ، فَوَاللّهِ مَا غُزِىَ قَوْمٌ قطُّ فِى عُقْرِ دَارِهِمْ إلاّ ذَلُّوا. فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتِ الْغَارَاتُ عَلَيْكُمْ وملكت عَلَيْكُمُ الأوْطَانُ.
وَهْذَا اخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأنبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ ابْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِىَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا. وَلَقَدْ بَلَغَنِى أَنَّ الرَّجُلَ مَنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرِعَاثَهَا، مَا تَمْتَنع مِنْهُ إلاّ بِاِلاسْتِرْجَاع وَالاِسْتِرْحَامِ! ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مَنْهُمْ كَلْمٌ وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِما مَاتَ مَنْ بَعْدِ هذَا اسَفا مَا كَانَ بَهِ مَلُوما بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِى جَدِيرا.
فَيَا عَجَبا وَاللّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الهمَّ مِنِ اجْتِمَاعِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحا لَكُمْ وَتَرَحا حِينَ صِرْتُمْ غَرَضا يُرْمَى، يُغارُ عَيْكُمْ وَلا تُغِيرُونَ. وَتُغْزَوْنِ وَلا تَغْزُونَ. وَيُعْصَى اللّهُ وَتَرْضَوْنِ. فَإذَا أَمَرْتُكُم بِالسَّيْرِ إلَيْهِمْ فِى أَيَّامِ الْحَرَّ قُلْتُمْ هذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ, وَ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إلَيْهِم فِى الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبِرْدُ. كُلُّ هْذَا فِرَارا مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ فَإذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ تَفِرُّونَ فَإذا أَنْتُمْ وَاللّهِ مِنَ السَّيْفِ أفَرُّ.
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ. حُلُومُ الأطْفَالِ. وَعُقُولُ ربَّاتِ الْحِجَالِ! لَوَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَعْرِفْكُمْ . مَعْرِفَةٌ وَاللّهِ جَرَّتْ نَدَما وَاعْقَبَتْ سَدَما. قَاتَلَكُمُ اللّهُ لَقَدْ مَلاُتُمْ قَلْبِى قَيْحا. وَشَحَنْتُمْ صَدْرِى غَيْظا.
وَجَرَّعْتُمُونِى نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسا. وَأفَسَدْتُمْ عَلَىِّ رَأيِى بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّ ابْنَ أَبِى طَالِبٍ رَجُلٌ شُجاعٌ وَلكِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. للّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مَنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسا وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاما مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَاذَا قَدْ ذَرِّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ. وَلكِنْ لا رَأىَ لَمِنْ لا يُطَاعُ.
وفيما يلي بعض الإضاءات على جوانب من هذه الخطبة العظيمة :
الفصاحة:
وهى من ابرز صفات كلام الإمام على بن أبي طالب. فنلاحظ كيفية استخدامه لأساليب الكلام الإنشائية والخبرية والتنويع بينها. فيبدأ باستخدام الجمل الإنشائية كقوله: قلتُ لكم اغزوهم (أمْر) قبل أن يغزوكم, فواللّه (قسَم) ماغزى قومٌ… ثم ينتقل إلى الخبرية كقوله: فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الاوطان… فالتنوع هذا يجعل السامعَ لا يمل من الخطاب والقارىء يتمتع بالكلام, وهذه صبغة الخطبة كلها.
والمُتمعّنُ في النصّ يجد الكلمات الفصيحة والبليغة وقد جاءت مناسبة لمواقعها من الخطبة تماماً. فأي تغيير فى المحل أو استخدامٍ لكلمةٍ مرادفة يؤدي إلى اختلاف المعنى ! فعلى سبيل المثال نأخذ كلمة (أسَفاً) في قوله (فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِما مَاتَ مَنْ بَعْدِ هذَا اسَفا مَا كَانَ بَهِ مَلُوما) واستبدلناها بكلمة (حزناً) لما أدت ذات المعنى لأن (الأسف) تحمل في طياتها معنى الغضب والتلهف مع الحسرة بينما (الحزن) معناه أكثر سلبية لاقتصاره على الغم والكرب. وكذلك كلمة (تواكلتم) فى هذه قوله (فتواكلتم وتخاذلتم…)، لو استبدلت بكلمة (تعاجزتم)، لما ادّت نفس المعنى الذي تفيده (تواكلتم). فالكلمة الاولى فيها معنى التهرب من المسؤولية وهو غير معذور، واما الكملة الثانية فإن العجز قد يكون عذرا.
الأسلوب:
يظهر جلياً مدى تأثر كلام الإمام وأسلوبه بالقرآن الكريم في كثير من العبارات والجمل، تارة عن طريق الاقتباس المباشر (لِباسُ التَّقْوَى… دَعَوْتُكُمْ لَيْلاً وَنَهَارا وَسِرا وَإعْلانا) وتارة عن طريق استلهام طريقة العرض والتعبير والتشبيه (ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بَالأسْدَادِ…. وَسِيمَ الْخَسْفَ).
العاطفة:
لجأ الإمام إلى استخدام عنصر العاطفة فى هذه الخطبة بشكل مؤثر وفعال. فهو خاطبَ وجدانَ المستمعين قائلا: إنى قد دعوتكم إلى قتال هولاء القوم ليلا ونهارا و…و…، وكشف أمامهم حقيقة انفسهم وهي انهم ركنوا إلى التواكل والخذلان ولذلك لن يفلحوا أبدا. فلا سبيل أمامهم كي يهربوا من مسؤولية الخراب والدمار الذي وقع لأنهم هم المتقاعسون والمقصرون فى أداء واجباتهم بعد أن تمسكوا بالأعذار الواهية.
وحرّكَ المشاعرَ وأثار الاحاسيس لدى المخاطبين عن طريق غريزة حب الوطن، حيث قال: ومُلِكت عليكم الاوطان. فاحتلالُ الوطن من قبل الاعداء يثير الغضب عند الجمهور ويدفعهم الى الثأر من المعتدين.
وأيضاً أثار مشاعر الجمهور عن طريق ملامسة الشعور الدينى, حيث يقول: فيا عجبا عجبا واللّه يُميت القلبَ ويجلب الهم من اجتماع هولاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم؛ فالتفرّق عن الدين الحق، وعصيان الله و …. وكلها أحاسيس ومشاعر دينية صادقة تفجر بركان الغضب عند المسلمين ضد أعدائهم.
وكذلك اثار المشاعر عن طريق اسلوبه في العرض. وقد تدرّج فى اثارة العاطفة لدى الجمهور المحتشد, فهو ابتدأ بذكر المراة المسلمة ثم المعاهدة، ثم تدرج فى كلامه من سلب الحجل (الخلخال) فى الاقدام وصعوده الى السوار فى المعاصم (الايدى) والى القلادة فى الجيد، واخيرا الى القرط فى الاذان. ومع هذا التصاعد يتصاعد لهيب الحماسة والغيرة و الحميّة فى النفوس ويشحنها غضباً على العدو.
والإمامُ كان يعلم ما لدى المسلم والعربيّ من استعدادٍ لبذل نفسه وماله للحفاظ على شرف المراة وكرامتها . فهو اذن يعنّف هؤلاء القوم اشد تعنيف على القعود دون الذود عن المراة التى استباح الاعداء حماها ثم انصرفوا آمنين .
وكان من الطبيعى ان يغضب الامام على فى مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما فى نفسه من الغضب، وتأتى حارّة شديدة مُسَجّعة مُقطعة ناقمة حيث يقول: فقبحاً لكم وترحا حين صرتم غرضاً (هدفا) يُرمى، يُغارُ عليكم ولا تغيرون، تغزون و لا تغزون، ويُعصى اللّه وترضون.
وكذلك نرى الامامَ وقد اثار الشعور عند جمهور الكوفيين عن طريق تذكيرهم بجُبنهم وخوفهم , حيث يقول: فأنتم واللّه من السيف أفرّ. فليست المسألة صيف وشتاء, او حر و برد, وانما هو الخوف من العدو الذي استولى على نفوسهم. وقد بلغ الامام الذروة حين وصفهم بأشباه الرجال …
و يستمر الامامُ فى اثارة الناس عن طريق صدق العاطفة، حيث يقسم باللّه العظيم قائلا: فواللّه ما غزى قوم قط فى عُقر دارهم الا ذلوا. ثم نراه ينفعل مراراً خلال الخطبة, فيقول مخاطبا الناس: قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبى قيحا وشحنتم (ملأتم) صدرى غيظا وجرّعتمونى نغب التهمام (جرعات الهموم) انفاسا (واحدة تلو الاخرى).
واخيرا تبدو مرارة الألم فى كلامه حيث يقول: لوددت انى لم ارَكم ولم اعرفكم معرفة واللّه جرّت ندما وأعقبت سدما (همّا). ويختم الخطاب فى النهاية بالمثل المعروف: ولكن لا رأى لمن لا يُطاع, ويظهر يأسه منهم وإعراضه عنهم.
والكلام بشأن هذه الخطبة يطول, ومَن شاء المزيد يمكنه مراجعة موسوعة شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي , ابن القرن السادس الهجري, ففيها ما يغني طالب المعرفة.
وهذه الخطبة العظيمة كانت على الدوام مصدر الهام لكثير من الادباء والشعراء , ومن منطلقات وخلفيات فكرية متنوعة, الذين اقتبسوا من افكارها وعباراتها في أعمالهم التي تدعو الى الثورة والمقاومة.
ومن هؤلاء الشاعر المناضل المشهور مظفر النواب الذي قال في احدى قصائده :
” أُنبيكَ علياً !
ما زلنا نتوضأ بالذلّ ونمسحُ بالخرقة حدّ السيفْ
ما زلنا نتحجّج بالبرد وحرّ الصيفْ “
فهو عندما أراد أن يعبّر عن التخاذل امام الاعداء والتقاعس عن الجهاد السائد في العالم العربي لم يجد أفضل من خطبة الامام علي ليشير اليها ويوظفها لخدمة غرضه الشعري وخطه السياسي.