قراءة نقدية في نص “تضحكُ كشمسٍ وتطيرُ كغيمةٍ خضراء” للشاعر العراقي ” سعد جاسم”
د. حسن محمد العمراني | شاعر وناقد مصري
أفق التعبير ومستويات الدلالة”
أولاً: النص
“تضحكُ كشمسٍ وتطيرُ كغيمةٍ خضراء”
صديقتي راقصةُ الباليه
التي تُشبهُ حمامةً بيضاء
لاتعرفُ غيرَ أن تضحكَ
اقولُ لها : أنتِ جميلةٌ
فتضحكُ كشمسٍ بُرتقاليةْ
أقولُ لها : أنتِ مجنونةٌ
فتضحكُ كموجة زرقاءْ
أقولُ لها : البلادُ تحترقُ
وقَدْ أَصبحتْ سوداءَ
وطاعنةً في ظلامِ الدمْ
وفي نزيفِ الدمعْ
وفي ازرقاقِ القلبْ
وفي عويلِ الكُحْلِ والألوانْ
أَقولُ لها كلَّ هذا الضَيْم :
فتضحكُ كغزالةِ جريحة
أقولُ لها : العالمُ في خطر
فتضحكُ كنمرةِ شكسبير
أقولُ لها : الحياةُ رماديةٌ وجاحدةٌ
فتضحكُ كموناليزا غامضة
أقولُ لها : أحبكِ
فتضحكُ
وتضحكُ
حتى تُصبحَ غيمةً خضراء
تطيرُ وتضحكُ
تتعالى وتضحكُ
ومن هناااااااااك
من الأعالي الزرقاءْ
والسماواتِ البعيدةْ
تمطرُني بالقبلاتِ
وبالضحكِ الأخضر
أقولُ لها : إنزلي أرجوكِ
فتضحكُ
وتضحكُ
و
ت
ض
ح
ك
حتى تغمرَ العالمَ كلَّهُ
بأَقواسِ الفَرَحِ
وبهالاتِ القَزَحِ
وبالغِبْطَةِ والمَسَرّاتْ
وبالخُضرةِ والحُمْرةِ والزُرقةِ
وبكرنفالاتِ العشقِ والقُبُلاتْ
ثانياً: القراءة النقدية
من النصوص التي تروق ما بين الحين والٱخر للذائقة النقدية نص قصيدة ” تضحك كشمس وتطير كغيمةٍ خضراء” للشاعر ” سعد جاسم”.
فمن الوهلة الأولى يطالعنا هذا العنوان الطويل وكأن الشاعر يمنحنا رموز قصيدته جملةً، ثم يعمد لاستعراض ملامحها تفصيلاً. ومن هذا المنطلق يدلف الشاعر للنص مستعيناً بالمدلولات الحسية واللفظية للحروف والأصوات والألوان، تمامأ كما تستغل صديقته الراقصة تقنيات الموسيقى والإيماء والمشاهد المسرحية في الباليه التعبيري.
هكذا يستهل الشاعر قصيدته وهو يقدم لنا صديقته” راقصة الباليه” التي يحاول أن يجاريها من ناحية، بينما يحاول جذب انتباهها لما يعتمل بذاته الشاعرة من جانب ٱخر.
ومن هذا المنطلق يعتمد الشاعر علي التقنيات السينمائية، فنجد الأحداث تتراسل عبر حواسه الشعرية، فتتجاور وتتباعد لتساير أسلوب الوصف والحوار. وعبر هذه الدينامية تتشكل الصور الشعرية لتعبر عن حالة من الإرتباك داخل النص، مما يُوقع الشاعر في معترك التركيبات الدلالية العميقة أحياناّ والمفردات المألوفة التي قد تطرأ علي ذهنه أثناء الكتابة في أحايينَ أخري، وكأننا نعالج زمنين في القصيدة: زمن معايشة النص وزمن كتابة النص.
وهذه الحالة الشعورية اللامتجانسة تخلق ارتباكاً شعرياً، تجسده المفردات المتضادة والصور المجازية التي تتراوح بين الطول والقِصَر. وللتصالح مع ذاته الشاعرة يلجأ الشاعر لصياغة البراح التعبيري منساقاً لهذا الإنزياح اللغوي من خلال حروف العطف حتي تتكشف محاور تجربته الشعرية وعناصرها الفنية والأسلوبية.
فالمفردات اللونية التي يعمد لتوظيفها داخل القصيدة توحي لنا باللحظة الخاطفة التي يقتنصها بكل مقتضياتها كالبرق الذي تتشكل فيه الرؤى مرة واحدة كألوان الطيف العابرة. وهنا يتحقق الكشف في النص مما يمكِّن الشاعر من قراءة محبوبته التي تتنزل علية في موكب راقص بهي، فتبدو صورتها أمامة وكأنها تعيش في عالمٍ مغاير لعالمه، وتلاحق فضاءً ليس كفضائه، وتعتريها حالة ليست كحالتة المزاجية.
وهذه الحالة اللاقضبية- بلغة الاصطلاح الدارج للتنافر والتجاذب- تجعله يتوسل لصديقته المُلهِمة، وكأنها ملائكة الرحمة، رغم أنها لا تصغي لمشاعره بما يليق.
وبالضد تُعرف الأشياء وتتضح الأمور. فصديقته تتحلى بألوانٍ وردية؛ لكن الشاعر ألوانه صارخة بلون الهموم التي يعايشها ويتفاعل معها. وحروف صديقته هامسة كموسيقاها الراقصة؛ لكن عبارات الشاعر قاسية بفعل القضايا التي تعصف بذهنه.
ورغم أن فتاته باءت ببعض جراحه لكنها تكابر، فنري الشاعر يعرب عن يأسه من تحقيق التجانس بينه وبين هذا الكيان الأنثوي، وكأنه ما زال يقف علي مسافة منها، عندما قدمها لنا أول مرة بوصفها صديقته وليست محبوبته.
وتظل مسافة التغريب النفسي والشعوري قائمةً حينما تترفع تلك الصديقة عن العالم الدنيوي الصادم، مفضِلةً الحياة “كموجةٍ زرقاء” أو ” كغيمةٍ خضراء” أو ” كغزالة جريحة”، رغم “عويل الكحل والألوان” وكأنها تخادع نفسها وتعيش حالة من التفاؤل الحذِر.
فتتناثر حروف القصيدة مسايرةً للضحكات المتناثرة، التي توزعها هذه ” النَمِرة” الشكسبيرية الشرسة، التي تستعصي على الترويض ” كموناليزا غامضة”.
وهنا يمكننا أن نقيم علاقة ما بين الشكل والمعني: بالحروف المتقطعة توحي بانزياح الواقع الإفتراضي الذي تتهادي فيه الراقصة وكأنها الذات الشاعرة التي تأبى علي الخضوع للٱخر، فتحاول كسر حالة التشاؤم وشرخ شرنقة التجربة التي يعايشها الشاعر ومن علي شاكلته من البشر.
النص جميل وَرَاقٍ كفن الباليه، بجانب توفيق الشاعر في تضمين مدلولات الصور الحركية واللونية والصوتية؛ إلا أنه وقع- وأظنه دون قصدٍ- في شرك الخطابية في بعض الألفاظ والعبارات مثل:
“تشبه حمامة بيضاء/ البلاد تحترق/ وقد أصبحت سوداء/أقول لها: العالم في خطر/ الحياة رمادية وجاحدة/والسماوات البعيدة/تمطرني بالقبلات/ هالات الفرح…
تلك المفردات التي لا تجاوز ظلها، كونها معروفة بالضرورة أو مستهلكة شعرياً وبلاغياً ما زالت في حاجةٍ لصياغةٍ شعرية متأنية حتى تتعمق أدوات التجربة وتعرب عن باكورتها الإبداعية.
وهذه المثالب يمكن تجاوزها بمعايشة التجربة الشعرية بعمق وتريث دون الانزلاق إلي مغبَّة المباشرة والتسطيح.