سر الابتسامة (٢)
رضا راشد | الأزهر الشريف
ويبقى السؤال قائما:
ما سر هذه الابتسامة لأناس تقودهم زبانية البشر إلى قطعة من جهنم في غياهب سجون اليهود، حيث المصير المجهول وما لا يُتَخَيَّل من أنواع العذاب النفسي والجسدي، ثم انعدامِ الأمل في رؤية شمس الحرية؟!
لقد حاولت أن ألتمس في التاريخ شعاعا من نور يكشف لي عن هذا السلوك الغامض، فوجدت في قصص الأنبياء (النموذج الأمثل للصراع بين الحق والباطل ومنجم الدروس والعبر بما في هذا الصراع)، ..وجدت في قصة الكليم موسى عليه السلام ما يفسر ذلك، فها هم أولاء سحرة فرعون الذين استكثر بهم في مغالبة موسى وهارون عليهما السلام:《فلنأتينك بسحر مثله》[طه:٥٨] ولكن السحر سرعان ما انقلب على الساحر؛ إذ رأى السحرة في عصا موسى ما ليس في حبالهم وعصيهم، فامتلأت قلوبهم يقينا بالله عز وجل أن هذا الذي يجري على يد موسى ليس من جنس ما يتعاطَوْنه من السحر، وأن هذا معجزة حقيقية تحولت بها العصا إلى حية حقيقية تلقف ما يأفكون، وليس تخييلا للحقيقة يموه به السحرة والمشعبذون على عوام الناس خداعا لعيونهم ؛《فألقي السحرة ساجدين○قالوا آمنا برب العالمين ○رب موسى وهارون》[الشعراء:٤٨:٤٦]، وهنا أسقط في يد فرعون؛ فلم يعد أمامه إلا حيلة العاجز في ميادين الحجة والبرهان العقلي؛التهديد بالعذاب قائلا: 《آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن ايديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين 》[الشعراء:٤٩ ]《ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى 》[طه:٧١]
ولقد كان فرعون عاليا من المسرفين كما وصفه القرآن الكريم في سورة الدخان [آية ٣١] ، فكان يوقع ما يهددهم به، وهم لا يخفى عليهم شيء من ذلك، وما أفاعيله في بني إسرائيل من تذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم من السحرة ببعيد، فلا شك أنهم أيقنوا من أنفسهم بأن فرعون إذا توعد أوقع ما توعدهم به، ولا سيما أنهم مرغوا أنفه في التراب، ومع كل هذا لم يستطع يقينهم بالعذاب أن ينافس في قلوبهم يقينهم بما هم عليه من الحق، فقابلوا تهديده ووعيده بلا مبالاة، لا، بل بكل استخفاف وتهكم وازدراء قآئلين:”《لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون○ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين 》[الشعراء:٥١،٥٠] ، فصاروا يقولون الآن 《ربنا 》بعد أن كانوا يقولون《 رب العالمين ○ رب موسى وهارون 》.
《لا ضير》إنها قمة الاستهانة والاستخفاف بوعيدٍ، هم موقنون أنه نافذ فيهم اليوم لا غدا؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة” .وما التهديد؟إنه تصليبهم في جذوع النخل وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف : اليد اليمنى مع الرجل اليسرى واليد اليسرى مع الرجل اليمنى !!
بلى والله؛ إنه لضرر أي ضرر ، وإنه لعذاب فوق العذاب، فكيف ينفون ذلك كله بلا النافية للجنس《 لا ضير 》 ثم كيف يستهينون بهذا الوعيد الفرعوني الشديد ؟
تفسير ذلك-والله أعلم- أن القوم قد غشي قلوبَهم من أنوار اليقين وأضواء العلم بأن موسى رسول الله، ما جعل أي ألم جسدي لا يقوم لما قام في النفس والقلب من أنوار الإيمان وأضواء اليقين.
ومصداق ذلك ما قاله ابن كثير رحمه الله: ” توعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما؛ وذلك أنهم قد كُشِف لهم عن حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله أيده به ” ، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره :
“وقال السحرة – حين وجدوا حلاوة الإيمان وذاقوا لذته-: لا ضير ، أي لا نبالي بما توعدتنا به “،فيقينهم بأن موسى على الحق وما وجدوه من حلاوة الإيمان في قلوبهم وذوقهم لذته هو ما هون عليهم هذا العذاب الشديد فقالوا جميعا: 《لا ضير》
وليس في نفيهم الضرر نفيا له على الحقيقة، ولكنهم لما كانت قلوبهم امتلأت يقينا بصدق ما هم عليه، وكان هذا الوعيد سبيلهم للجنة= اشتاقت نفوسهم للجنة بما هوَّن عليهم العذاب.
إن للروح لذةً بالمعاني تفوق لذةَ الجسد بالمحسوسات، فإذا نالت الروح لذتها لا يبالي المرء بما يعتري الجسد حينئذ من عذاب؛ لأن استغراق الروح في التلذذ يُنسي الجسدَ آلامَه .
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه(وهذا مؤلم جدا للجسد )، ومع ذلك: جعلت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ ولا تفسير لذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاين من لذة القرب في قيام الصلاة ما يذهله عن الإحساس بالألم من تفطر قدميه.
ولهذا قيل: إن أهل الليل في ليلهم (أي المتهجدون بالليل) أشد تلذذا من اهل اللهو في لهوهم.
وفي غزوة مؤتة يمسك الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب الراية بيده اليمنى فتقطع فلا يبالي بالدماء تسيل منها ويمسكها بيده اليسرى فلا يبالى ويمسكها بعضديه؛ لأن حرصه على رفع الراية وخوفه من ان تسقط كان فوق ألمه بجراحه.
ولقد كان الزمخشري رحمه الله يستعذب معاناته وسهره في حل عويصات مسائل العلم ويفضلها على لذة الشهوة، فيقول:
سهري لتنقيح العلوم ألَذُّ لي
من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة
أشهى وأحلى من مدامة ساق
ومحصول القول :
أن في الإنسان جسدًا وروحًا، وأن لكل منهما لذةً، وأن لذة أحدهما في عذاب الآخر، ولكن الكلمة العليا للروح، فهي إذا تلذذت بشيء- فيه تعب الجسد وعذابه- استحوذت على إحساس المرء كله، بحيث تنسيه ألم جسده ، وذلك أن الله عز وجل لا يجمع على المرء بلاءين؛ فإن ابتلى المؤمن ببلاء في جسده عوضه ربه من نعيم الروح والنفس ما يهون عليه البلاء، بل ما يذهله عنه ساليا.
وهؤلاء الثلة المباركة من الشباب المرابط حول بيت المقدس، إنما يقومون مقاما كان يفترض أن تقومه الأمة كلها، ولكن الأمة خذلتهم؛ بما حيل بينها وبينهم، أو بما استحوذ عليهم من شهوات نفوسهم، فغيبهم عن الأحداث: عقلا أوقلبا ..ومع ذلك ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله من هذا الواجب، وما ضعفوا وما استكانوا تذرعا بقلة عدد أو بضعف عدة، بل استعظموا الحقير مما يجاهدون به عدوهم، واستكثروا القليل وجعلوا من الحجر رجوما لشياطين الإنس من أبناء يhود ..فكان حقا على الله الكريم أن يقابلهم جودا بجود أعظم وكرما بكرم أكثر، فأفاض على قلوبهم من أنوار السكينة ما هَوَّن الدنيا وجعلهم يستهينون بظلمات السجن فداءً للمسجد الأقصى .ولو أن أحدًا ممن يسعَوْن لنيل دنيا مكانهم وتعرَّض لمثل ما يتعرضون له لتجمد الدم في عروقه رعبا وهلعا مما ينتظره، وأقل ما ينتظره المصير المجهول.
أعرفتم الآن سر الابتسامة؟!
أوأدركتم سببها ؟!
أعرفتم فضل الله؟!
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .
فيا من تملكتكم الدهشة من ابتسماتهم :
اعلموا أن لهؤلاء مقاييس غير مقاييسكم وأن لهم عالما غير عالمكم؛ هو عالم الروح المخالف لعالم الواقع؛ فلا تخلطوا بين العالَمَيْن، ولا تحكموا في القوم مقاييسكم، فإن فعلتم كان عليكم من إثم التجنى على الحقيقة ما لا يوصف !!
تمت والحمد لله