يوميات نصراوي: عاشت اللحى الثورية
قصة: نبيل عودة | فلسطين
تفلسف في الجامعة حتى عاد بلحية ممتدة حتى الصرة، والله أعلم ما العلاقة بين الذقن والصرة. توسمنا الخير بعودته، وما توسمنا الخير في ذقنه.
كانت تربطني به زمالة قديمة من أيام المدرسة الابتدائية. عرفته بهدوئه، باجتهاده المدرسي، بميله للانعزال، بابتعاده عن تجمعات الأصحاب ونقاشاتهم ولم يكن للسياسة مكانا في حياته.
شددنا الأيدي، أنصتنا لكلماته المشتعلة بلهيب الثورة، فرحنا لوطنيته المكتشفة، هنأنا أنفسنا بزميل جديد، ضممناه، أحطناه بأفئدتنا وقلنا أهلا “أبا العبس”!
عن أيام مضت وأيام ستمضي
في ليلة باردة، شديدة البرودة، اشتد فيها الزمهرير وشحت الأمطار انقطع المهنئون بالعودة، كانت ليلة كالحة السواد، حتى بات لا يميز الليل من سواد ذقنه.
ساد هدوء مضج بسبب انقطاع المهنئين بالعودة والشهادة، كل شيء من حوله صامت، إلا أفكاره تضج بقوة داخل رأسه، تعترك تتجادل، تخطط لما يلي من أيام، كيف يظهر، من أين يبدأ، ما يصح قوله، ما لا يليق أن يقال، كان جالسا إلى نفسه، يحاورها، يقارع أفكاره بأفكار مرت عليه في قراءاته، أثناء دراسته الجامعية.
تناول مسائل الفكر والفلسفة قارن بين مجتمعه الغارق ببدائيته وتأخره وبين المجتمع الذي قضى في جامعاته سنوات عديدة. استعرض مواقف مجتمعه المتحجرة وأساليب نشاطهم السياسي الذي بات غريبا عن دنياه الجامعية. طرق دعايتهم تليق بسوق الخضار، كأنهم يبيعون المبادئ بالوزن، تكرارهم الممل لنفس الصيغة بعجز عن تجديدها. موقفهم من قضايا التحرر كان مجرد إعلان التأييد لشعب مناضل كفيل بنصره. الموقف من المرأة من تحررها، إعلان قبولنا تحرر المرأة، ونحن أول من نضطهدها. نريد التحرر للمرأة التي لا تربطنا بها علاقة، أما من تخصنا فالويل من تحررها.
سيعلمهم كيف تكون المواقف الثورية. كيف يكون النضال الثوري، كيف يكون تحرر النساء كيف تحرك الجماهير، طرق تثويرها ان نشر الفكر الثوري بين العمال والطلاب والارتقاء بالعمل السياسي بما يتلاءم مع عصرنا.
حاول أن يضع ملامح على طريق حياته العتيدة، كون لنفسه صورة عن معاركه المقبلة، عن قيادته للجماهير، أرهقه التفكير بنقطة البداية. إنها خطوة أولى بعدها سينطلق. تبدأ دربه في الصعود. رأى نفسه غارقا في نشاط، بحر من النشاط، لم يحدد نوع نشاطه وطرازه. برنامج واسع من الإلتزامات الاجتماعية والسياسية، تحليلات ومقالات مختلفة، محاضرات متنوعة، تثقيف الجماهير لن يكون سهلا. إخراج الجماهير للشارع لن يأتي بلا جهد، تحرير المرأة يحتاج إلى طلائعيين، ثوريين قولا وعملا.
رأى حوله الدنيا تلتهب بالحماس، سحب أنفاسا طويلة من سيجارته عبأ بها صدره الواسع المندفع برجولة نحو الأمام.
أطربته أفكاره وتخيلاته، اقتنع ان ساعته قد حانت، تلك علائم ميلاد جديد، بداية انهيار العالم القديم بكل عثراته وهزائمه وولادة العالم الجد، الناصع، المحسوب بأدق تفاصيله، أحس بمدد من الراحة والاطمئنان لغده، بلا سابق إنذار انتقل لذكرياته من أيام الدراسة الثانوية، تذكر زملاء الدراسة مدعي الثورية أيامها، ابتسم بطرف فمه، تذكر انه كان يقرض الشعر، تذكر بعض مقاطع قصائده فكبرت ابتسامته واتسعت حدودها على وجهه. ألهبته فكرة العودة لقرض الشعر، اتسعت ابتسامته في محاولة لتجاوز حدودها القصوى، رأى نفسه يكتب قصائد وطنية، قصائد غزلية في عشق الأرض، ارتاحت نفسه بشكل افتقده منذ وصل البلاد، عاد للوطن بعد دراسة جامعية طويلة وحافلة بالنشاط السياسي لقضية شعبه الوطنية، الشعر بات علامة تجارية للوطن. صار شعراء الوطن أشهر من نار على علم!!
وهل الوطن قصيدة؟
هاجس خفيف راوده فأفقده ابتسامته الواسعة وقلصها إلى حدود تجمع بين الحيرة والابتسام. شيئا فشيئا أيقن ان الشعر كان عاملا في تثوير الجماهير مما اقنعه ان الشعر وسيلة هامة من وسائل الثورة .
أمسك القلم وشحذ ذهنه مستحضرا شيطان شعره، حاور التعابير اللغوية المكتظة في رأسه، تأكد ان ساعة العطاء إقتربت، تنتظم الكلمات وتتدفق بشيء من الإلهام.. استعرض أسماء عشرات شعراء فلسطين في الماضي والحاضر، تذكر مقاطع رائعة من قصائدهم، التهب حماسة، امتلأت نفسه بروعة المعاني، ناشد شيطان شعره النائم ان يصحو ويلهمه مثل أيام زمان، ضغط القلم على الوريقات البيض الناصعة أمامه، انتظر نزول الكلمة الأولى، تتدفق بعدها الكلمات والمعاني ويتراكم سيل التعابير والصور. تلاشت ابتسامته، تأمل حالته، أيقن انه أمام ولادة متعسرة، ان المعاناة لا بد منها حتى تولد الكلمة وتتكون القصيدة، انتشرت ابتسامته خجلى مترددة على طرف فمه، فكر بمنطق بما يجري معه وغرق في التأمل.
تاه في بحور المعاني، شده تراكم الكلام وسدت منافذ التدفق. أيقن أن صمت شيطان شعره يشبه صمت الحكام العرب أمام تفجر الانتفاضة وأمام صمود شعب فلسطين.
كان مقتنعا انه يريد ان يكتب الشعر، يشعر بدافع قوي وملح والهام غريزي. ربما لو حدد الموضوع لسهل على شيطان شعره ان ينطلق ممهدا السبيل أمام تدفق الأوزان، عندها ستجد كل كلمة مما يملأ رأسه مكانها المناسب، تنطلق التعابير شعر بحماس جديد، اتسعت ابتسامته، خط كلمات قليلة وشطبها، خط من جديد وشطب من جديد، قرر انه يريد قصيدة غاضبة يحطم فيها الأصنام القديمة والخونة المأفونين والعملاء وذليلي النفس، قصيدة مارش للثورة الظافرة التي سيحرك عناصرها بنشاطه الواسع بجهده المخلص، بإرادته الصلبة وبوطنيته الصادقة.
نظر للوراق بحماس وحمية، ارتجف القلم متحمسا بين أصابع يده، فاتسعت ابتسامته، انتشرت من جديد، لكن شيطان شعره نائم وصامت، تقلصت مساحة ابتسامته تدريجيا حتى عادت إليه عبوسه، شتم الشعر وكاد يشتم الشعراء، قرر ان الشعر لا ينفع كثيرا للثورة، الشعر خيال وعواطف وتحليق وآمال وأوهام، وهو لم يخلق لهذا، أبدا أبدا ابدا…
على الهامش
تمضي الأيام رتيبة حزينة، تتصارع خلالها في نفسه عوامل المد والجزر. كانت تعذبه مشكلة البداية، يغرق في قراءاته، يدرس مشاكل مجتمعه، يحلل نقاط الضعف، يؤكد على نقاط القوة، يراقب أساليب النضال ويبتسم من مستوى الإدراك المتدني، من الخوف لتحريك الجماهير، من التردد في الحسم، الرد الثوري لا بد منه، بدأ يشعر بالغضب من أساليب السياسة السائدة، يهز رأسه ويهمس لنفسه: انتظروا!!
أزوره مره فأجد جدران بيته مغطاة بصور الملتحين من الثوريين أمثال ماركس، انجلز، لينين، تشي جيفارا، كاسترو وعرفات.
فهمت العلاقة وتوسمت خيرا.. قلت: نحن بانتظارك أبا العبس!
يا شايف الزول يا خايب الرجا
ترددت على “أبا العبس” كثيرا. قلت لنفسي لعلها فترة هضم، لعلها خطوة إلى الوراء من أجل قفزة إلى الأمام. دعوته للمشاركة في نشاطات مختلفة، كان يتلقى دعواتي بابتسامته الساخرة البارزة على طرف فمه، كان ان استجاب لبعض دعواتي، ربما ليتعرف عن قرب على أساليبنا المتحجرة، ليدرس نفسية الجماهير، لحظة نزوله العاصف إلى الشارع، عندها لن تعود الأمور إلى سابق وضعها، التمهل واجب والخطوات يجب ان تكون محسوبة، كل شيء محسوب بدقة، لا مجال للمفاجآت في الثورة، المفاجأة ستكون من نصيب الأعداء، الأعداء السياسيين، الأعداء الطبقيين، المتخاذلين، الانتهازيين والخاملين.
أراد صاحبنا مع عودته أن تكون الأمور جاهزة، أراد جماهير ثورية مستعدة بمجرد ان يطلق الإشارة، حلم أن آلاف الأكف تصفق له، هكذا لأنه هو قمة الفكر الثوري هنا. لكن أحلامه كانت زوبعة في ذاته لم يعشها إلا بأحاسيسه، عندما اكتشف أن الدنيا ليست كما يحلم، وليست كما نحلم… غضب، اثبت انه يعرف أن يغضب، بدأ يبحث عن هدف لغضبه، سرعان ما وجد قميص عثمان. هم أفشلوه ومنعوا جماهيره الثورية من الاندفاع، منعوا الأيدي ان تصفق له، ابتساماتهم وليونتهم إلى الجحيم، يدعون انهم ثوريين ويجلسون في مكاتب، يجب ان يتواصل الضغط الثوري على السلطة، أين أنت يا تشي جيفارا؟
هو يعرف من هو، ستعرف الدنيا من هو، هو هو.. هو الثورة، الفكر الجديد المتقد، اللحية الثورية رمز… ولن يقبل أن يحتويه أحد، الاحتواء إلى الجحيم!!
لجأ إلى صومعته، حيث الصور والثورة والفكر والعبقرية واللحى الثورية، ابتعد عن مجتمعه، ابتعد عن الجميع، تماما كما كان في أيام المدرسة، بالكاد يختلط مع أحد. انه مجتمع محبط ما داموا لا يتصرفون كما يريد ولا يأخذون مشورته في النضال!!
جلس ينتظر. انتظر الزوابع من جراء انسحابه الصاخب. انتظر الانفجارات في صفوف الجماهير، انتظر الزوابع تطالبه بالعودة، انتظر ان تتجمع الجماهير أمام بيته تصر على عودته للشارع وقيادة النضال.
انتظر.
ينتظر.
سينتظر.
هو.. أعني هو بالضبط، نسي أنه ليس إلا هو نفسه. لم يضف شيئا لنفسه، أو لمن حوله، إلا اللحية.
اللحية الممتدة حتى الصرة.
عاشت اللحى الثورية!!