في مديح التنسيق الفلسطيني الداخلي
الدكتور أحمد رفيق عوض | رام الله – فلسطين
رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية في جامعة القدس
أنا أحب حركة فتح لحيويتها و مرونتها وشعبيتها الطاغية وتضحياتها وعفويتها وبساطتها الساحرة، وأحب حركة حماس لإنضباطيتها وأدائها وقدرتها ومقدراتها ومهاراتها العملية ومنها السياسية، وأحب الجهاد لترفعها عن التفاصيل ونخبويتها وجرأتها ومبدأيتها، وأحب الجبهة الشعبية لحديتها وتنظيمها ولما تقدمه من بدائل ونماذج وصمودها أمام التغيرات والاغراءات، وأحب الجبهة الديمقراطية ولما تقدمه من رؤية عميقة للواقع السياسي والاجتماعي ولذلك البنيان الهائل من الأدبيات الذكية الشاملة رغم انهيار الكتل والتحالفات.
وأحب اليسار عموما لما يشكل من رؤى أُخرى ووجهات نظر معارضة وناقدة رغم ما يعتور هذا اليسار من انقسام وتشرذم، واحب القوميين والبعثين و المتصوفة على أنواعهم ومذاهبهم. هذا هو شعبي، غني ومتعدد ومعافى ويمور بالحيوية.
ولأن الحب لا يكفي فإن الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة أجنحتها وتياراتها وشخوصها ورموزها وحتى أفعالها تتسم بعدم التنسيق في بعض الأحيان، والتنافس البغيض في أحيانا أخرى، وتعارض المرجعيات والتحالفات وفي احيان ثالثة، هذا فضل عن الاتهامات الفظيعة والتوجس والتنافر ونشر معظم الغسيل النظيف وغير النظيف.
أقول ذلك على خلفية الأحد عشر يوما الأخيرة التي أرست معادلات، ونسفت معادلات فالدم المسفوح في شوارع الضفة المحتلة وكذلك في غزة المحاصرة هو دم فلسطيني واحد لا يتجزأ وقد سفح من أجل فلسطين وحريتها واستقلالها وكان دما مقدسا لا يقبل التجزئة أو التأطير أو التصنيف
وبعيدا عن تلك الارتدادات والتأثيرات لتلك الأحد عشر يوما على الوعي الإسرائيلي وعلى طبيعة التحالفات الجديدة في المنطقة، فإن ما يهمني بشكل شخصي، هو أن تدفعنا تلك التضحيات ودماء أولئك الشهداء الذين سقطوا الى ضرورة التنسيق والتعامل بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، لان ذلك شرط وحيد وأوحد لاكتمال النصر أو على الأقل لمراكمة نقاط التقدم نحو الحرية والاستقلال
ما أقصده هنا هو أن ما جرى لا يمكن تجاوزه أو اغفاله أو تجاهله، ما جرى يعلمنا أن الشعب الفلسطيني يغير من أساليبه وأدواته ويراكم قوته ويعيد حساباته، وأن غياب التسوية العادلة وإنكار الحقوق يدفع الفلسطينيين الى فضاءات جديدة ورؤى أخرى، هذا هو التاريخ، لا يتوقف على شخص ولا على أسلوب ولا على رؤية، المتغيرات تخلق الاستجابات
إن ذلك يفرض علينا جميعا أن ننسق فيما بيننا، وأن نتعامل وأن نتشارك وأن نتواضع وأن نهتم بمجريات الأحداث واتجاهات الجمهور ومزاج الناس
نحن لا نتعامل من أجل من يقود، أو من يمثل، بل نتنافس على من يحرر ويغير، ونحن لا نبحث عن مناصب ومنابر بل نريد قدرات وطاقات جديدة.
تعلمنا الأحد عشر يوما، برأي المتواضع، أن الشراكة تكون أما من خلال الميدان أو من خلال صناديق الاقتراع أو من خلال الاتفاق المرضي والمشبع لوحدة القرار ووحدة العمل، ولان الاتفاقات الميدانية قد تكون أقوى من كل الاتفاقات المكتوبة أو المرعية، ذلك أن مجتمعنا ليس مجتمعا مكتملا ولا حتى حرا، فإن التنسيق الفاعل والناجع والمناسب للمرحلة ومعطياتها، وهي ضيقة جدا بالمناسبة، تكون هي الطريق الوحيد والأنسب حتى لا تضيع دماء الشهداء وعذابات الناس وحتى نستطيع أن نبقى في مركز الاهتمام
أرى أن من صنع تلك الأحد عشر يوما هو الشعب الفلسطيني جميعا؛ حركة فتح وحركة حماس وحركة الجهاد والجبهتان الشعبية والديموقراطية وكل أطياف اليسار وكل الناس الطيبين الصامدين الصابرين الذين حملوا كل أولئك بصدورهم وقلوبهم وضلوعهم.
التنسيق ليس مستحيلا ولا صعبا ويمكن أن يكون من خلال صناديق متعددة الكل يعرفها جيدا. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإننا نسمح للآخرين أن يحددوا لنا نظامنا السياسي ومستقبلنا أيضاً.. وهو ما لا نريده بالتأكيد.