قراءة نقدية في رواية ” ولدتُ مرتين ” لـ ” عادل شريفي “
أ. سمر تغلبي | أديبة وناقدة سورية
الدوران والطاقة ينتجان الحياة
رواية “ولدت مرتين” هي الرواية الرابعة للروائي عادل شريفي؛ فبعد “حب في زمن الثورة” و “هكذا تكلمت ناهد” و”اللعب مع السلطان”، جاءت هذه الرواية ببناء روائي متين بفضاءاته المختلفة ولغته المشرقة وحكايته التي بدأت حبكتها منذ المقدمة لتمسك بتلابيب القارئ فلا تفلته حتى يغلق دفتها الأخيرة..
عتبات الرواية:
والبداية من عتبة العنوان الذي يخلق لدى القارئ تساؤلاً وجودياً يشكّ بأنه سيقرأ الإجابة عليه بين دفتي الرواية؛ فالولادة الثانية للإنسان هي الولادة من الذات، من الداخل، الولادة التي تحقّق تصالحاً مع الكون والإنسان والحياة، هذه المعادلة الصعبة التي قلّما يتحقق التوازن بين أطرافها المختلفة عند أي شخص ولو ولد آلاف المرات، نجدها تتحقق لبطلة الرواية بولادة ثانية من رحم النور الذي امتدّ من سحر الأرض إلى سحر الفكر الذي يضع القارئ أمام ولادة جديدة، ليتحقق هدف الكتابة التي لا تكون ناجحة إن لم تضع القارئ أمام مخاض تعقبه ولادة جديدة للفكر أو للروح أو لكليهما معاً..
ولم يترك الكاتب العنوان بغموضه المطلق، بل وضعنا أمام تفسير لهذه الولادة بعنوان فرعي آخر (رحلة النور.. سيدني – دمشق) لندرك رحم هذه الولادة المقصودة دون أن يؤثر هذا الإدراك على التشويق الذي يبنى غالباً على الغموض، لكن الروائي عادل شريفي بناه هنا على فتح باب موارب تتسلل منه آلام مخاض الروح والفكر؛ لتشكل عنصر إثارة إضافي يجعلك لا تترك الرواية قبل أن تعبر بوابتها الأخيرة…
فإذا انتقلنا إلى صورة الغلاف التي هي لوحة للفنان “جورج مطر” وجدناها تمثل حالة من الدوران الصوفي الذي يسمى “الميلوية” وهو ما يفتح نافذة التساؤل عن علاقة هذا الدوران الصوفي بالولادة الثانية، لنكتشف رمزيتها مع قراءة الرواية على لسان “جمال” الملاك الحارس كما تسميه “مادلين” بطلة الرواية وساردة أحداثها وهو يشرح لها ماهية الدوران برؤية علم الطاقة:
“كل مافي الكون يدور يا مادلين.. الأرض تدور.. والشمس تدور.. والجسيمات في نوى الخلايا تدور.. والإلكترونات في نواة الذرة تدور أليس كذلك؟” ص190
ولسنا هنا بصدد التصحيح العلمي لنقول إن الإلكترونات تدور حول النواة وليس فيها، وإنما نأخذ بالمقصد الذي أراده الكاتب على لسان جمال بأن الدوران حالة عامة في الكون تحيل إلى الحياة والحركة:
“كل ما يتحرك سيتوقف يوماً، لأن هذه الحركة ليست ذاتية، وإنما هي طاقة يستمدها من شيء خارجه، هي الطاقة التي أودعها الخالق في هذا الكون.” ص191
فإذا فتحنا الغلاف تلقّفتنا عتبة الإهداء التي جعلها الكاتب خاصة جداً؛ إذ ربما لن يدرك المقصود بالإهداء إلا المُهدي والمُهدى إليه: “إلى من أشعل الفكرة في رأسي…” ص3
ولا ندري إن كان الذي أشعل الفكرة شخص محدد سيصله الإهداء، أم أنه تراكم لأفكار وردت من أشخاص دون دراية منهم وفي هذه الحالة لن يدركوا أنهم المقصودون من هذا الإهداء..
أما العتبة الأخيرة وهي المقدمة فهي أبعد من أن تكون عتبة؛ ففيها لب القضية، وأول الحكاية، وسبب حدوثها:
“حُفرت صورته في ذاكرتي، صرت أراه كلما أغمضت عيوني، بينما بقي صوته يطنّ في أذني ليلاً نهاراً كأنه منبه بيولوجي مربوط على النبض، “عودي إلى جذورك.. عودي إلى جذورك”.” ص7
شخصيات الرواية:
رغم تعدد الشخصيات في الرواية إلا أن شخصياتها الرئيسة اقتصرت على شخصيتي “مادلين” الساردة، وابن عمها “جمال” الملاك الحارس:
مادلين: فتاة لأمّ أسترالية منسوبة لأمها، فهي نتاج علاقة عابرة بين أمها ومغترب سوري في أستراليا.. عانت أمها الكثير في تأمين حياة كريمة لها، ومع ذلك فقد أوصلتها المصاعب التي عاشتها إلى محاولة الانتحار، لتعود إلى الحياة بأعجوبة وتكون هذه العودة ليست عودة جسدية فقط، بل عودة روحية دفعتها للبحث عن والدها البيولوجي علّها تكتشف شخصية ملاكها الحارس الذي أنقذها من الموت.. لتبدأ رحلة النور..
جمال: سوري دمشقي وهو ابن عم مادلين، شاب مثقف قوي الشخصية له تأثيره على العائلة كلها، يكلّفه عمّه (والد مادلين) بمرافقتها خلال رحلتها إلى دمشق لتكتشف في اللحظة التي يقع فيها بصرها عليه بأنه هو الملاك الذي أنقذها من الموت وأعادها إلى الحياة فتاةً أخرى مختلفة؛ لتبدأ مرحلة أخرى من حياتها بعيدة كل البعد عن حياتها السابقة.
وإضافة لهاتين الشخصيتين المحوريتين هناك ثمة شخصيات أخرى مؤثرة في الرواية على مستوى الأحداث، منها:
“سوزان” والدة مادلين التي تعمل في شركة السكك الحديدية؛ وهي تقضي أيامها مسافرة مع القطارات، وهذا يبعدها عن ابنتها فترات طويلة تاركة إياها في حضانة موظفي السكك الحديدية. وهذا كان سبباً مهماً في الفراغ العاطفي الذي عانت منه مادلين..
ومنها “مروان” رجل الأعمال المهم في أستراليا وابن العائلة العريقة في دمشق وهو والد مادلين البيولوجي الذي أرسل لسوزان 200 دولار لتقوم بإجهاض حملها ولا تتصل به أو تطالبه بمسؤولياته تجاه الطفل القادم. هذه الرسالة التي قرأتها مادلين مراراً ضمن أوراق والدتها وحمّلت قلبها حقداً على والدها، لكن معرفتها بظروفه وحياته فيما بعد جعلتها تسامحه وتحمل له في حياتها اللاحقة محبة بمقدار ما حملت له حقداً في حياتها السابقة.
وبعد سوزان ومروان تأتي بعض الشخصيات التي تليها في الأهمية وهي شخصيات: “هالة” خطيبة جمال و”ملك” ابنة عمته ووالدتها “أميرة” و “سهام” زوجة مروان .
بينما تظهر بعض الشخصيات الطيفية التي عبرت في الرواية لأداء وظيفة محددة، ومنها شخصيات في أسترالية كأصدقاء مادلين: “جوش” و “كيث” و “كريستين” و “سام” و “دايانا” الذين كان وجودهم فقط لبيان حجم المآسي التي عاشتها مادلين والتي أودت بها إلى الانتحار، والقس “بيتر” الذي عجز عن الإجابة عن تساؤلاتها حول الكون والحياة، واليوغي “ماستر” الذي لم تقنعها إجاباته بأن التأمل يجيب عن كل أسئلتها “إن التأمل سيعطيكِ الإجابة” ص16، ثم الدكتورة “كلارا سميث” التي خضعت عندها لجلسات العلاج النفسي التي لم تكن مجدية، والدكتور “ويلنغتون” الذي كتب تقريره النفسي بعد حادثة الانتحار والذي سُمِح لها بعده أن تعيش حياتها بحرية، أما صديقتها المقربة فهي “إلينا” التي تسرّ لها بكل ما يعتلج في صدرها..
ومنها شخصيات ظهرت أثناء الرحلة من سيدني إلى دمشق مروراً بدبي، منها العجوز الذي جلس بجانبها في الطائرة يحدثها عن شوقه للشام التي غادرها شاباً “أخيراً سأعود إلى الشام نهائياً” ص54 والذي عرض عليها أن يوصلها بطريقه بعد الوصول إلى دمشق “تعالي يا ابنتي أوصلك في طريقي.. فسائقو السيارات هنا يستغلون السياح عادة.. وابنتي تنتظرني في الخارج بسيارتها” ص63، والطفل المشاكس الذي شتت تركيز مادلين في الطائرة حيث كان يجلس في المقعد الذي أمامها مع أمه، وقد استغربت رؤيته يرضع من أمه في زاوية مخفية من زوايا متجر في مطار دبي.
أما الشخصيات الطيفية التي ظهرت في دمشق فقد اقتصرت على “أم سعيد” التي تقوم بالتكييس في حمام السوق، و”أم عصام” التي تقرأ الكفّ في الحمّام، وفتيات العائلة اللواتي رافقن مادلين في رحلة الحمّام، ونساء العائلة اللواتي شاركنها العزاء ومنهنّ سحر وهيام أختَي سهام.
إضافة لبعض الشخصيات التي حضرت بتأثيرها رغم كونها قد رحلت عن عالمنا قبل زمن الرواية، مثل “زعيمة” أم مروان و “تيسير عدلي” والد مروان.
الفضاء الزماني للرواية:
فضاء الرواية الزمني محدود ببداية ونهاية، بدايته لحظة خروج مادلين إلى الحياة بعد حادثة الانتحار واسترداد جزء من الروح لاستكمال مسيرة الحياة، ونهايته لحظة مغادرتها دمشق عائدة إلى أسترالية. ومع ذلك كان الخطف خلفاً وسيلة للتحليق الزمني خارج مجاله المحدود لينفتح الفضاء على الماضي كما على المستقبل.
فمنذ الفصل الأول عادت بنا مادلين إلى حياتها ونشأتها لتخبرنا بالتحولات النفسية التي مرت بها والتي أوصلتها إلى قرار الانتحار، لتبدأ الحكاية بعد نجاتها من الموت بأعجوبة، وفي الفصل الأخير تعود بنا مادلين ذاتها إلى أبعد من ذلك حين تتحدث عن القدر الذي جمع أباها وأمها لأيام معدودات كانت هي نتيجتَها.
وبعيداً عن خيوط الحكاية تنطلق بنا الرواية إلى أزمنة أبعد من شخصياتها وحيواتهم؛ إذ تحملنا إلى العصر العباسي تارة: “وصل الأمير الفضل بن يحيى العباسي أواسط القرن التاسع الميلادي إلى دمشق والياً وأميراً عليها، مكلفاً من ابن عمه الخليفة المتوكل…” ص151، وإلى زمن الشيخ محيي الدين بن عربي تارة أخرى: “تراءى لي الشيخ وقد قام من قبره بلباسه الأبيض الناصع والنور يعلو محياه، تناول عمامته، نفض عنها الغبار ثم وضعها على رأسه، وبدأ يدور رافعاً يديه إلى السماء”ص190، وتمضي بنا بعد ذلك إلى زمن “الشيخ فاتح” جد العائلة الذي كان يُجري في زاويته حلقة صوفية “يجتمع فيها أهل الذكر كي يسبحوا الله عن طريق تواصل سماوي من نوع خاص”ص222، فيما تأخذنا في موضع آخر إلى زمن قابيل وهابيل: “استشاط قابيل غيظاً وغيرةً، فأقدم على قتل أخيه مرتكباً أول جريمة في تاريخ البشرية”ص198
أزمنة كان معظمها يتجلىى لمادلين في لحظات الصفاء، فسّرها لها جمال بذبذباتها الباقية في الفضاء والتي يلتقطها من تطابقت معها موجات استقباله: “لقد توافقت أمواج تأمّلك وتوليفك في تلك اللحظة مع الطاقة التي خلّفها جدّك منذ قرون في ذات المكان.. فالحدث الذي تسجَّل في الإمام المبين جاهزٌ للعرض لأي شخص يستطيع التوليف مع موجة هذا الحدث”ص150.
وفي حين لم تخبرنا الرواية تاريخ أحداثها بشكل تفصيلي فإننا نستشفه من الأحداث، فمروان غادر دمشق إلى أستراليا في العام 1986 حيث التقى سوزان “كان حبَّها الأول، تملّكها بغرابته ذات ليلة من شتاء العام 1986. شابّ مهاجر يستقلّ رحلة بالقطار بين سيدني وملبورن.”ص218
و يحدد الكاتب الزمن الذي دخل فيه مروان حياة مادلين معتمداً على عمرها في ذلك الزمن:
” ربما لم أعتد بعد على اقتحام حياتي بهذا الشكل من قِبل أبٍ مقصِّرٍ صحا بعد مرور اثنين وعشرين عاماً على عاطفةٍ ما..”ص45
وهذا يجعلنا ندرك أن زمن الرحلة هو في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
المكان: فضاء واسع على محدوديته:
رغم الحضور الطاغي للمكان في الرواية فإنها لم تتجاوز حدود أستراليا إلا لتهبط في دمشق التي لم تبتعد عنها. فحضور المكان لم يكن باتساعه المادي بقدر ما كان بدلالته المعنوية والتراثية والتاريخية إضافة إلى الجمالية في بعض الأحيان.
وفي تفصيل لا بدّ منه لابد أن نعرّج على الأماكن الأسترالية التي لم يكن ذكرها إلا لتدعيم البناء الروائي الذي لا يمكن أن يقوم دون دعمه، فكان لا بدّ من ذكر مكان ولادة مادلين “في شارع هارنت الواقع في حي ماركفيل المكتظّ بالملوّنين في وسط سيدني”ص12 فالذي يميز هذا المكان هو أنه مكتظ بالملونين أي المهاجرين من بلدان الشرق. ومكان “مدرسة اليوغا في نورث سدني”ص16 ومكان عيادة الدكتور سميث الذي خضعت مادلين عنده للعلاج النفسي “عند تقاطع شارعي أكسفورد/نيو تاون”ص17 وملبورن مكان إقامة مروان “يقطن فيلا فاخرة في ليفينغستون روود في ساوث ملبورن”ص27 ثم “محطة سينترول ستيشن القريبة من ماركفيل”ص31 التي انطلق منها القطار الذي ركبته مادلين إلى ملبورن. و “مكتب جعيتاني للسفريات عندكم في لاكيمبا”ص47 الذي حجزت بطاقة السفر إلى سورية من خلاله، و “وول ورث ماركت”ص47 مكان عمل مادلين الذي حصلت على إجازة منه بغية السفر.
أما شاطئ بوندي وصحراء سترزيليكي وجبال الألب فقد وردت في الرواية ضمن تشبيهات لمادلين أحدها معنوي: “فاجتاحتني نشوة غامرة تشبه موجة منعشة على شاطئ بوندي في عز الحر”ص44، والآخر مادي تصف فيه الأجواء السورية قبل الوصول إلى مطار دمشق الدولي: “بدأت المدائن تلوح لي من شباك الطائرة بعد أن قطعنا صحراء مترامية الأطراف كصحراء سترزيليكي تماماً”ص61.أما الثالث فهو روحاني إذ تصف مادلين المسجد الأموي الذي كان سابقاً كنيسة يوحنا المعمدان، وقبل ذلك كان معبدَ جوبيتر الدمشقي..
“أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من التعبد دون أي انقطاع تضفي طاقة سكينة غامرة تلفّ المكان، تكتنف الزائرين كضباب أبيض كثيف على جبال الألب الأسترالية.”ص96
وقبل الوصول إلى دمشق كانت المحطة في دبي، مطار دبي الذي كان فيه “بعض سمات المجتمعات الشرقية الساحرة”ص56 بينما كان الحديث عن أسواق وحوانيت المطار بعيداً عن الوصف المادي، إنما كان وصفاً للبيئة عموماً بمكوناتها البشرية قبل المادية: “استهوتني البضائع المتنوعة وذاك الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، الجنسيات المختلفة التي أصادفها. كان الشيء اللافت جداً هو لباس المواطنين الأبيض، هذا اللباس الذي يصورونه في الأفلام الهوليودية كرمزٍ للبلاهة والسطحية وغلبة الشهوات، رأيت اليوم أن أصحابه طيبون مسالمون، فلغة العيون لا يمكن أن تكذب.”ص59
أما في دمشق فقد كان المكان هو البطل الحقيقي للرواية، فهذا الفضاء رغم محدوديته المكانية إلا أنه كان زاخراً بالقيم الجمالية أو التراثية أو التاريخية أو بكل هذه القيم مجتمعة..
ومن هذا المنطلق فقد قل الوصف المادي للمكان إلا لضرورة تتعلق بقيمة أو أكثر من القيم السابقة، أو لتوضيح فكرة عن أصحاب المكان، فمثلاً جاء وصف منزل عائلة هالة لتوضيح الحالة الاجتماعية والاقتصادية لهذه العائلة: “فالأثاث عمره على الأقل ثلاثون عاماً. التلفاز يعود لحقبة الثمانينات مع جهاز فيديو قديم وأغطية مطرزة، صورة ضخمة لمنظر طبيعي باهتة الألوان تغطي أحد الجدران.”ص153
وجاء وصف حمام السوق لبيان “ثلاثمائة عام من السبات الزمني”ص205 حيث “توقف الزمن هنا في هذا الموقع بذات تاريخ بناء الحمام”ص205
حيث جاء في الوصف: “بعد المدخل الضيق الذي يطالعك فور ولوجك من الباب، صالة كبيرة تنفتح أمام عينيك لها قبة عالية وفيها أقواس عديدة. المقاعد الخشبية المغطاة بالأقمشة ذات النقوش البدوية مثبتة في كل مكان في مشهد يبعث على الدفء في هذا الجو البارد”ص205-206
وبعيداً عن الوصف المادي ذي الحيّز الضيق في رواية شريفي نجد معظم الوصف المكاني يعتمد على انعكاسات المكان في الروح ففي قاسيون مثلاً: “في مطعم ذي أجواء آسرة، جلسنا أنا وجمال نشاهد المدينة من أعلى الجبل. بدت لنا كاستعراض أضواء بعيد في مسرح عظيمٍ من العتمة. تكمن جماليات الضوء في عشوائيته أحياناً؛ فالضوء بحدّ ذلك جميل، سواءٌ إذا نسّقت شعاعاته أم تركتها تشرق على سجيتها، يبقى النور نوراً وحسب ذلك جمالاً. سحرٌ بديع في دنيا الظلال، سطور إعجازيّة في كتاب العيون.”ص198
فالأمكنة الدمشقية في الرواية جاءت بمعظمها كي تحمل عبق التاريخ وسحره في هذه المدينة التي تعدّ بيئة حافظة للتاريخ، ففي “أزقة دمشق القديمة الضيقة لا تستطيع إلا أن تبدي إعجابك بكيفية حفظ هذه المدينة للتاريخ؛ فالتاريخ لا يزال ماثلاً أمامك في كلّ مشربيّة وباب، في كلّ منعطف يقودك إلى ممرّ مسقوف أو سيباطٍ مقبي، فكما أنّ هناك مواد حافظة للأطعمة حتى لا تفسد ففي دمشق بيئة حافظة للتاريخ.”ص172-173
وفي تفاصيل الفضاء المكاني الدمشقي في الرواية نجده يبدأ من المطار الدولي ليمر عبر الطريق إلى المدينة وصولاً إلى فندق الشام وسط دمشق، هذا الفندق الذي لم يحظَ بمزيد وصف إذ اكتفت مادلين “ومن ورائها الكاتب” بالقول إن “تصميمه الهندسي الخارجي حديث، لكن تجهيزه من الداخل كان شرقياً ساحراً”ص70
بينما لم يرد أي وصف لمعالم هذا الفندق فيما عدا الطابق البانورامي الذي اعتادت مادلين أن تتناول فيه طعام الإفطار.. والذي “يكشف المدينة كلها. الضباب والثلوج يغلفان قمم الجبال المحيطة، حتى بدت دمشق كطاولة كامليوت المستديرة وحولها الفرسان الوقورون بلباسهم الأبيض”ص165
فلم يكن الحديث عن هذا الطابق في الفندق إلا بغية الحديث عن المدينة التي يكشف جبالها وأبنيتها وشوارعها…
وفيما نحن بصدد الحديث عن أحد المعالم الدمشقية الحديثة في الرواية، فلا ضير أن نعرّج على المعلم الحديث الآخر الذي رصدته الساردة وهو فندق الفورسيزن “المعلم العمراني الضخم المنتصب وسط المدينة. حتى وسط الحداثة يبقى لدمشق تاريخها، إذ تتوضع وسط المطاعم الفخمة قبة لدرويش من دراويش الشام-ذائعي الصيت- الذين يملؤون صعيدها.”ص139
أما المعالم القديمة للمدينة والتي زخرت بها الرواية فلا يمكن الإحاطة بها بشكل تفصيلي في هذه العجالة؛ فقد بدأ من دمشق القديمة ص78 والجامع الأموي ص96 ثم قصر العظم ص100. لينطلق بنا خارج حدود المدينة إلى صيدنايا ودير سيدة صيدنايا التاريخي وحكاية بناء هذا الدير على حافة الجرف الذي ظهرت عليه السيدة العذراء للإمبراطور الذي كان يلاحق غزالة ليقتلها. ص109-110 ومن بعد صيدنايا تأتي معلولا، المدينة التي ما يزال سكانها يتحدثون الآرامية/ لغة السيد المسيح ص117. ولم ينس الكاتب تزويد القارئ بمعلومات تاريخية عن هذه المناطق على لسان “جمال” الذي تفرّغ لمرافقة مادلين في رحلتها وشرح ما تحتاج شرحه حول المناطق التاريخية التي تزورها.
ثم يعود بنا إلى المدينة ليعبر بنا حي المهاجرين الدمشقي الذي سكنه المهاجرون من جزيرة كريت اليونانية التي تحررت من الاحتلال العثماني وكان “يقطنها جالية كبيرة من المسلمين الأرناؤوط الذين تعرضوا لموجة عاتية من التهجير والقتل بعد تحرر الجزيرة، فوفدوا إلى سوريا لا يلوون على شيء.”ص122-123
وتحطُّ بنا الرحال بعد ذلك في التكية السليمانية والمتحف الوطني مروراً بسوق الحرف التاريخية المقتطع منها “سوق كامل للحرف التقليدية لا يملّ المرء من التجوال بين حوانيته التي تعيد عدّادات الزمان إلى الخلف قروناً.”ص135
في هذه الأماكن يتداخل الزمان بالمكان، فالتنقل بين الأمكنة هو تنقّل بين الأزمنة أيضاً، “جميل أن تنتقل عبر الأزمنة بلا ضوابط كما يحصل معي في الآونة الأخيرة،”ص133. فلكل مَعْلَم زمنه الذي بني فيه لا ليحمل تاريخه فقط، بل ليحمل حكاياته وذكرياته التي التقطتها مادلين وفسرها جمال وسنأتي على ذكر ذلك فيما بعد.
وفي تداخل آخر بين الزمان والمكان تأتي ليلة الميلاد التي تقضيها مادلين للمرة الأولى بعيداً عن سيدني وعن والدتها، هذه المرة كان الميلاد في باب شرقي وزينة الميلاد ثم كنيسة الزيتون وكنيسة حنانيا “المنزل الذي استضاف شاؤول أو بولص الرسول يوم جاء إلى دمشق طالباً دماء من تبقى من تلامذة المسيح، فارتدّ عنها رسولاً قد ملأ الإيمان قلبه.”ص159
ويعرّج بنا الكاتب من خلال روايته بعد ذلك على مَعلم مهم من معالم دمشق اللأثرية وهو المدرسة الجقمقية التي بناها الأمير سيف الدين جقمق في الحقبة المملوكية في القرن الخامس عشر تقريباً، هذه المدرسة التي تحولت إلى متحف للخط العربي الذي ابتدعه الفنانون المسلمون “حتى غدا مدرسة قائمة بحد ذاتها كفن تشكيلي له قواعده وفنانوه الذين لا يقلّون روعة عن رافاييل ومايكل أنجلو وليوناردو دي فنشي في المجتمعات الثقافية الغربية”ص171
ولم يبق من رحلة النور إلا زيارة مقام الشيخ محي الدين بن عربي “وسط سوق مكتظٍّ بالباعة والنّاس والجلبة يقبع مسجد قديم يتوسط حي الصالحية العريق، مسجد الشيخ محي الدين”ص189
تليها الرحلة إلى “قمة جبل قاسيون، هناك حيث تنازع ابنا آدم أمام مذبح الله”ص197
لتكون رحلة حمّام السوق الواقع في حي الميدان لدمشقي هي الرحلة الأخيرة التي كانت رحلة إلى الماضي، حيث الطقوس التي تحافظ على أدق تفاصيله:
“”ارتدي هذا القبقاب برجلك يا مادلين”.. قالت لي ملك.. “آه اسمه قبقاب؟”.. فضحكت وأجابت: “أجل.. إنه الحذاء التقليدي المخصص للحمامات في بلادنا.. إذ لا يكاد يخلو منه بيت في دمشق”..”ص207
“تمددي يا مادلين على كرسي التلييف هذا.. وسأترك لأم سعيد كي تكيّسك وتليّفك وتقوم بواجبك على أكمل وجه”ص208
“قضينا بعدها حوالي الساعة نستحمّ ونسكب الماء الساخن على أجسادنا في طقس رائع جعلني أحسّ وكأنني تناولت العديد من كؤوس الشراب في حفلة نهاية العام الدراسي”ص210
“دقائق مرت أحسست فيها بحركة النادلات النشطة قبل أن تُمَدَّ أمامنا طاولة مليئة بالطعام والحلويات الشامية”ص211
وأما الختام فكان في المسجد الذي أدت فيه مادلين صلاة الجنازة لراحة روح والدها مروان الذي اختتم خبر موته رحلة الحمام المثيرة بالنسبة لها…
ففي “ولدت مرتين” لم يكن المكان عابراً أو مساحة للأحداث فقط، بل كان البطل الحقيقي للرواية لغزارة حضوره ولعمق تأثيره.
الطاقة والمادة:
الرواية التي بين أيدينا مليئة بدروس علوم الطاقة التي تبهر القارئ الذي لم يطّلع على تلك العلوم من قبل، كونها حديثة ومعظمها ليس موثقاً. ولا عجب في ذلك؛ فالروائي عادل شريفي له محاضرات في هذه العلوم، ويبدو أنه أفاد من كونه يجمع هذه العلوم مع الإبداع الكتابي، ليقوم بإيصال هذه المعلومات بأسلوب أكثر تشويقاً من أسلوب المحاضرة التي لا تجذب الكثيرين، فكانت هذه الرواية التي جمعت الكثير في هذا المجال من خلال حوارات جمال ومادلين من جهة ومن خلال بعض الأحداث التي كانت تحصل مع مادلين ولا يمكن تفسيرها إلا من خلال هذه العلوم.
فالإنسان ليس مجرد لحم ودم، بل هو روح يمكنه التركيز على موجات معينة لأشخاص معينين وينسى ذاته في أثناء ذلك: “أنا لست أنا، أنا كائن آخر ناقلٌ للروح. صعدت إلى الحافلة، فانقطعت سلسلة تركيزي على نفسي لأغرق في موجة لأشخاص المنهمكين في التحدث بهواتفهم النقالة”ص62
وكثيرة هي الأحداث التي وردت في الرواية متّكئة على هذا المعنى، كمثل ما ورد في هذه السياقات السردية:
- حين أمسكت مادلين صندوق جدتها زعيمة وفتحته وبدأت تتفحص أغراضه العتيقة: “قلادةٌ من عقيق أمسكتُها فعصفت بذهني صورة وهي تلبسه وتنظر لجمالها في المرآة. أغمضت عينيّ أتأملها وقد تلاشت من أمامي كل الحجب. عرضت لي صورة لرجلٍ آخر في المرآة، شخص يرتدي قلنسوة تركية حمراء وله شاربان معقوفان للأعلى. أخبروا عمتي برؤياي تلك فأخبرتنا أن هذا العقد كان أحب قطع زينتها إلى قلبها، وقد جاءها هديّة من جدّها خلوقي باشا بعد عودته من إحدى زياراته لإسطنبول.”ص129-130
- في التكية السليمانية التي قامت مادلين بزيارتها وحيدة دون انتظار جمال، وفي أثناء جلوسها في الفسحة السماويةتتأمل نافورة الماء وأسراب اليمام: “غشيني عمود النور، فصرت في عالم آخر، عدت إلى الوراء عقوداً من الزمن. شابّ ملتحٍ وسيم يرتدي لباساً فخماً ويمتطي فرساً أصيلاً؛ كان يمشي على كتف نهرٍ حين رأى صبية جميلة القوام لا تظهر منها إلا عيناها…”ص133 ليكتمل المشهد لدى مادلين ويتبين بعد وصف ما رأته لجمال أن هذه القصة قد حدثت فعلاً في هذا المكان وأن هذا الشاب الوسيم ماهو إلا الفضل بن يحيى العباسي الذي قدم إلى دمشق أواسط القرن التاسع عشر الميلادي. ليفسّر جمال الأمر كعادته: “لقد توافقت أمواج تأمّلك وتوليفك في تلك اللحظة مع الطاقة التي خلّفها جدّك قبل قرون في ذات المكان.. فالحدث الذي تسجّل في الإمام المبين جاهز للعرض لأي شخص يستطيع التوليف مع موجة هذا الحدث”ص149-150
- وفي حمام السوق وفي أثناء الاسترخاء الذي حرّض لديها الغياب عن الوعي لترى نفسها في عالم آخر لم تره أو تسمع به من قبل: “وسط نقر الدفوف المتواصل من قِبل مجموعة من الدراويش الملتحين الذين يرتدون اللباس الأبيض مع قلنسوة خضراء على رؤوسهم، وقف شيخ جليل ذو معالم مألوفة وسطهم. كلهم يهتفون بصوت واحد ونغمة تدخل القلب بلا استئذان “الله الله”، يهزون رأسهم بحركة واحدة يميناً ويساراً. هم لا يدورون هذه المرة بل يهزون رؤوسهم فقط. حضور سامٍ لطاقات عليا في مكان مضاء بالشموع،”ص209 ليأتي تفسير ذلك كالمعتاد على لسان جمال الذي يعرف جيداً تاريخ المنطقة وتراثها بشقيه المادي والروحي “لقد رأيتِ الطقس الذي كان جدي الشيخ فاتح عدلي يجريه بشكل دوري في زاويته والذي يسمى الحضرة”ص222
وهذا ما كان جمال يحاول شرحه لها باستخدام علم الفيزياء الكمية الذي يؤكد علماؤه “أن ما نعايشه في هذه اللحظة في عالم الواقع هو متأخر عن عالم الأفكار بمدة قد تكون وجيزة أو طويلة تبعاً لتفتّح الوعي عند كل منا”ص146
ثم سألها سؤالاً يهدف من خلاله لتبسيط هذه الفكرة لتتمكن مادلين من إدراكها بالشكل الأمثل:
“:”ألم يصدف أنك تعايشين أحداثاً تظنين أنها مرت معك من قبل؟”.. فأجبت: “تقصد الديجافو؟ أجل”.. فهزّ رأسه موافقاً، وقال: “إن لحظة الشعور بالديجافو هي لحظة انفتاح على عالم الأفكار ذاك، وهي تحصل هكذا بلا أسباب محددة”ص147
ويأتي التفسير الشامل لكل ما سبق بأن “الفكرة طاقة لا تفنى، وتبقى حتى بعد فناء صاحبها، تظل على متن الموجة التي شكّلتها إلى أن تجد أمواجاً تشابهها فتتحد معها لتعاود الحياة من جديد في رأس شخص آخر”ص119
قانون الجذب:
وهو تابع لقانون الطاقة ولكن بتأثيرات متقدمة، “تبقى آلية عمل قانون الجذب هذه مجهولة بالنسبة لي، مع أن الدنيا تضج الآن بكتاب روندا بايرن الذي نُشر مؤخراً مسجّلاً الأرقام القياسية بالمبيعات حول العالم، صحيح أنني تصفحت فصلاً من الكتاب إلا أنني لم أستطع فهمه”ص89
حاول جمال شرح هذا القانون لمادلين من خلال تطبيقات عملية حصلت لكليهما، فمادلين التي رأت جمال على بوابة العالم الآخر وهي تهم بالانتحار وقد أعادها إلى الحياة بأعجوبة، وجدته ماثلاً أمامها بشراً من لحم ودم بأسرع مما توقعت.. وجمال الذي دعا الله طويلاً ليمكّنه من التكفير عن خطأ عمّه بحق ابنته مادلين، هاهو ذا يراها ويرافقها في رحلتها إلى ذاتها وجذورها..
“”ممم.. إذاً كل ما أركّز عليه بتفكيري سوف يتجسّد في حياتي.. أليس كذلك؟”..
“بلى هو كذلك تماماً”..
“أوك.. إذا افترضنا أنني سأركز منذ الآن على عقدٍ أو سوار فهل سأحصل عليه؟”..
فأجاب مستغرباً وهو يخرج علبة من جيبه: “أنت خطيرة يا ابنة العم.. تفضّلي..”ص112
ولم يَفُتْه أن يوضّح الفكرة أكثر من خلال قصة نبي الله سليمان مع عرش بلقيس “*قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك* الآية” حين قال مفسراً ما جاء في القرآن الكريم “أن ذاك الشخص الحكيم مكنه علمه الواسع أن يحضر العرش ويضعه بين يدي سليمان بلمح البصر.. فماهو ذاك العلم يا ترى إن لم يكن قانون الجذب؟”ص115
وفي ذات السياق يأتي تركيز جمال على قانون التوازن الذي يؤدي العبث به إلى كوارث، فكثيراً ما نحرّض ودون وعي منا طاقات معاكسة لإرادتنا دون أن ندرك ذلك…
“”وهكذا فإن معظم أهدافنا نحن البشر يتم إجهاضها والقضاء على فرص نجاحها من خلال جهلنا بهذا القانون.. فنخلق من خلال إخلالنا بقانون التوازن قوىً معاكسة لأهدافنا تبعدنا عنها نهائياً، لا بل نؤذي أنفسنا بها أيضاً”.. فتساءلت مباشرة: “وكيف نتجنب إثارة هذا القانون ضدنا؟” فابتسم وهو ينظر إلى هالة كي تسمع جيداً ما يقول: “سؤال مهم جداً.. في البداية علينا أن لا نخرج من حالة التوازن في حياتنا، علينا أن لا ننجرف وراء أهدافنا بقلق دائم وخوف وهلع.. فكل ما تخاف خسارته ستخسره في النهاية.. وهكذا..”ص185
الفضاءالطباعي .. ليس مجرد شكل:
قُسِّمت الرواية إلى ثلاثة فصول:
بدأ الفصل الأول بعد المقدمة التي كانت مدخلاً مهماً إلى الحكاية كما ذكرنا في سياق الحديث عن العتبات.. هذا الفصل تحدث عن حياة مادلين في أستراليا مروراً بتعرفها على أبيها وانطلاقها في رحلتها إلى دمشق حتى وصولها إلى فندق الشام مكان إقامتها في المدينة.
أما الفصل الثاني فيسرد لنا الكاتب فيه تفاصيل إقامة مادلين في دمشق والمناطق التي زارتها والقيم التي تعلمتها حتى وصلت إلى ذاتها الضائعة… هذا الفصل الذي ضم الكثير من تفاصيل المكان والتراث والتقاليد الدمشقية العريقة..
أما الفصل الثالث فقد بدأ بموت والدها مروان وما تبعه من مراسم عزاء تعرفت العائلة خلاله على مادلين بعد أن كان من المقرر أن تكون رحلتها سراً كي لا تغضب زوجة أبيها سهام.. وانتهى الفصل بمغادرة مادلين دمشق متجهة إلى أستراليا من جديد، ولكن فتاة جديدة غير تلك التي فكرت بالانتحار يوماً..
ما يميز الفصول الثلاثة هو العناوين التي تصدرت مقاطع كل فصل، فقد كانت عناوين مميزة مشوقة تدفع القارئ للاستمرار في القراءة ليدرك إيحاءاتها..
فالفصل الأول تكوّن من خمسة مقاطع حملت عناوين: (متاهة اليأس، بداية المشوار، في أحضان الكروموزوم، على الجناح، مدينة أم حلم؟) أما الفصل الثاني وهو الأطول في الرواية فقد قُسِّم إلى أربعة عشر مقطعاً حملت عناوين: (جذبني؟ أم جذبته؟، الطلبات الدنيا، أمواج الحياة، في حضرة سليمان، تخاطرٌ مع من؟، عالم اللانهاية، الإمام المبين، عالم حقيقة أم وهم؟، الميلاد، الطاقة والمادة، الميزان، الشيخ الأكبر، معجزة الكون، بين الدراويش) أما الفصل الأخير وهو الأقصر فقد حمل فقط ثلاثة عناوين لثلاثة مقاطع فقط (لماذا الموت؟، النيّة، الملاك الحارس).
وفضلاً عن هذا التقسيم الذي يريح القارئ نجد التمييز بين السرد والحوار حيث اعتمد الخط الغامق للحوار والخط العادي للسرد، وكذلك ميّز الكاتب بالخط الغامق أسماء الأشخاص وأسماء الأمكنة والمصطلحات المختلفة..
“جسد يوحنا المعمدان ورأس الحسين بن علي. قصتان مأساويتان لرمزين كبيرين في الديانتين المسيحية والإسلامية.”ص96
“زينة الميلاد حوّلت المدينة إلى ما يشبه موطناً لسانتا كلوز..”ص109
“:”هل أنت بخير؟“.. سألته بصوت مرتجف، فأجاب: “أجل الحمد لله.. وأنتِ؟”..”ص130
“الميلاد، المعجزة التي غيّرت وجه العالم إلى الأبد، (……) أظن أن الله أراد من خلال ولادة يسوع أن يعيد ولادة العالم من جديد..:ص164
فيما ختم الكاتب الرواية بعد إتمامها بتاريخ 3/2/2019 وتوقيعه على ذلك في الصفحة 253، وقبل الفهرس في الصفحة 255، بشكر خاص وجهه “للسيد حسن عيسى على المعلومات التي قدّمها للإنجاح هذا العمل” ومن بعده “إلى كل من قدّم نصيحة أو معلومة أثرت مخيلتي وأعانتني على إنجاز هذه الرواية”ص254
بين الذهنية والشعرية، ثمّة لغة روائية خاصة:
تميزت لغة الكاتب بالبساطة سواء في السرد أم في الحوار وهذا يجعل الرواية أقرب إلى جمهور القراء على اختلاف شرائحه. فليس ثمة غموض في الألفاظ أو التراكيب، ولم يتّكئ كالكثير من الروائيين على مصطلحات روائية غربية أو شرقية لإبراز عمق الثقافة واتساع المعلومات، وإنما كانت اللغة وحدها ببساطتها ورقيها واتساع مفرداتها وسيلة التعبير الوحيدة سواء في السرد أو في الحوار…
ورغم سيطرة اللغة الذهنية التي برزت في المعلومات التي يقدمها جمال لمادلين من خلال دوره الذي وضعَتْه فيه كمعلّم لها، إلا أن هذه اللغة لم تكن مملة ولا باهتة، فقد جاءت ضمن حوارات حرص الكاتب على كسر اللغة الذهنية فيها ببعض التساؤلات أو الأحداث الجانبية التي تكسر رتابتها، فضلاً عن كون الكثير من المعلومات هي بحد ذاتها مشوقة للقارئ كونها تتحدث عن قوانين الطاقة التي -رغم جهل الكثيرين بها- يستطيع أي قارئ إسقاطها على بعض أحداث حياته أو خيالاته التي لم يكن يجد لها تفسيراً قبل ذلك. كما حدث مع مادلين حين رأت صورة جدتها زعيمة معلقة على حائط في بيت والدها مروان:
“غير أن تلك الصورة فتحت لي باباً دهرياًعلى أحداث قديمة ربما أكون قد عشتها في جسد جدتي يوماً(…) زمان بعد وذكريات مبهمة كانت تتراءى لي. لا أصدق أبداً ما الذي حصل، أخذتني معالم هذه الشخصية لتفاصيل أعرفها تماماً توالت على خاطري كلقطات من فيلم قديم مختزن في خلاياي”ص38-39
هذا بالضبط قد يصيب القارئ وهو أمام القراءة الأولى للرواية، سيتذكر الكثير من اللقطات الموجودة في ذاكرته ولا يدري كيف وصلت إليها، وهذا يخلق لديه تشوقاً أكبر لإتمام الرواية والاهتمام بكل كلمة فيها سواء وردت بلغة أدبية أو بلغة ذهنية.
وقليلة هي المواضع التي وردت فيها لغة ذهنية صرفة بسرد طويل نسبياً كما في هذا المقطع الذي تتحدث فيه الساردة “مادلين” عما تعلمته من جمال: “فكل معبدٍ على الأرض أُنشئ في الأصل لتعظيم الخالق الأوحد، الطاقة الكلية الخالقة والناظمة لهذا الكون ولكل خلق، أينما حصل وكيفما كان، المنزّهة عن النقص والتغيّر، كائناً ما كان اسمها، فبمجرد أن تنطبق تلك الصفات على أي إله فسيكون هو الله بالتأكيد….”ص97
ولم تخلُ الرواية من الصور الشعرية في الكثير من المواضع، منها على سبيل المثال لا الحصر:
“بعد أن كوى الجهل أديم أرضي لعشرين عاماً أصبحت متهيّئة لمطر المعرفة”ص197
“كما يطلُّ الغيب برأسه ليبدأ قصة جديدة، فتحت لي سيدة مليحة الوجه..”ص34
“زبدٌ يعلو أمواج تفكيرك لا يلبث أن يتبدد على شاطئ آمالك.”ص49
“أحاطت بي الأصوات من كل صوبٍ تضغطني في قمعٍ مصوّبٍ نحو السماء.”ص100
“ها أنا أصبحت كاللاقط الذي يلتقط كل طاقة طاهرة في أمواج الكون.”ص118
والذي نلحظه من هذه الأمثلة أن الصور فيها ليست في سياق الوصف، وإنما كانت كلها تنتمي لعالم الأرواح، أو عالم أقل ما يقال فيه إنه عالم اللامادة.. هذا لا يعني أن الوصف خلا من الصور ولكن معظمها جاء لا علاقة له بعالم المادة والمحسوسات..
واللغة في العموم سليمة إذا تجاوزنا بعض الأخطاء الطفيفة التي أتمنى أن يخلو منها كلّ عمل أدبي.
ختاماً:
بقي أن أقول إن القارئ بعد استمتاعه بالقراءة يخرج من الرواية بمقولة وردت في الرواية على لسان جمال:
“في فضاء الاحتمالات يوجد كل شيء”ص250 وليغلق الرواية ليس كما فتحها، بل متزوداً بطاقات إيجابية حملتها الرواية بين دفتيها لتقدمها لكل قارئ حسب احتياجه لها…
فمحور الرواية هو ما قالته مادلين في الصفحة 180: “إنني أولد مرة أخرى”.