الحلم في ” مرافئ الغيم ” للشاعرة رفعة يونس
بقلم: زياد جيوسي
سماء حافلة بالغيوم انعكست عليها ألوان قوس قزح على الصفحة الأولى للغلاف، تشير لجمالية خاصة سنراها في فضاءات الشعر في ديوان جديد يحمل اسم “مرافئ الغيم” للشاعرة رفعة يونس، من اصدارات شركة دار البيروني للنشر والتوزيع في عمَّان، والغلاف الأخير بلون السماء منقوش عليه بعض من شعر الشاعرة حيث تقول في مطلعها: “دعنا.. فوق جرح العمر نسافر.. نطوي سياط السنين..”، مع صورة للشاعرة الأردنية الجنسية والفلسطينية الأصل من بلدة سلواد في محافظة رام الله والبيرة، وهذه المقاطع المنتقاة للغلاف الخلفي تشير لرحلة الحلم مرسومة بلوحات شعرية من بوح روح الشاعرة، وقد سبق لروحي وقلمي أن حلقا في ديوانها “مغناة الليلك” وفي نصوص شعرية متناثرة، فسعدت باستلام أول نسخة هدية من الشاعرة بمجرد صدور الديوان من دار النشر وقبل الاعلان عنه واشهاره رسميا، والتجوال في مرافئ الغيم وأربعين نصا جميلا بين دفتي 157صفحة.
بدأت الشاعرة الديوان بمقطوعة للشاعر محمود درويش من نصه “في حضرة الغياب” وفي مقطع منه يقول: “ يا ابني لك حلمٌ ..فاتبع الحلمَ بما أوتيتَ من ليل ٍ !! وكنْ إحدى صفات الحلم واحلمْ تجد الفردوس في موضعهِ !!”، وهذا المقطع كاملا يشير للحلم الذي سنراه في تجوالنا في مرافئ الغيم، فالمرفأ هو مكان رسو القوارب والسفن على أطراف الشواطئ، ولكن الشاعرة جعلت العنوان للديوان الجديد “مرافئ الغيم”، وكأن الشاعرة أرادت من خلال العنوان ولوحة الغلاف ومقطوعة درويش، أن تجعلنا مسبقا نعيش في الحلم وترسي قواربنا فيه بعد رحلة ابحار في الديوان.
إن الأحلام في النصوص الشعرية ليست مجرد خيال كاتب أو غيّ شاعر، بل هي افكار ذات أبعاد فنية وفكرية، فالشاعر ومنذ فجر التاريخ العربي هو المتحدث بإسم القبيلة في الماضي والوطن في الحاضر، ومن هنا كان الشعر مرآة العرب وكان للشاعر مكانته الكبيرة، والأحلام تعبير عن علاقة الشاعر وممازجته للخاص بالعام، ففي ظل الهزيمة وما تلاها من وقائع لم يكن بها الا عدة مشاعل على المستوى العربي العام، معركة الكرامة، حرب الاستنزاف، حرب تشرين، فرار الاحتلال من جنوب لبنان، وبعض المعارك التي مثلت الصمود حين توفرت الإرادة، كان الواقع العام يتجه من سيء الى أسوأ، فيظهر الحلم هنا تعبيرا عن أمل وإيمان لا يتزعزع بالمستقبل رغم كل الظلام المحيط، ومن هنا كان للشاعرة دور آخر كشمعة تصر أن تبقى مشتعلة في قلب العتمة من خلال أحلامها ويقينها بتحققها، فهي ليست أحلام تأتيها بالمنام، بل نظرة تستشرف المستقبل وترى من خلالها الغد القادم، وفي جولتي بالديوان وجدت الحلم لدى الشاعرة يتراوح ما بين الحلم الوطني والحلم الشخصي والحلم الانساني.
الحلم الوطني: نرى الحلم الجميل لا يفارق نصوص الشاعرة فقد بدأت ديوانها بشعر في نص “صهيل الكرامة” حيث تألقت بالحديث عن معركة الكرامة التي أبدع بها الجيش العربي في الأردن مع قوات المقاومة الفلسطينية، بمعركة هزم بها الاحتلال الصهيوني شر هزيمة، فر من المعركة مخلفا الآليات العسكرية المدمرة وغير المدمرة وجثث قتلاه، فكانت هذه المعركة استنهاض لأرواح الجماهير العربية بعد هزيمة حزيران بأشهر معدودة، فقالت في نصها: ” وكَتبنا على دفترِ الغيمِ، اسمَ الكرامةِ، حين نبا لنا سيْفٌ، حين تاهتْ خُطانا، يا وحدنا كنّا”، حيث الحلم بنصر قادم: ” وبارقةً …أملاً يسمو، في عرسِ تَجلّينا”، لتنتقل بحلمها إلى القدس زهرة المدائن في نصها “يا قدس”، فتهمس بالحلم الآت: “ في القدسِ….شبابيكُ تنطُرُ، من شرفةِالغيْمِ، وجهاً يُطلُّ على فجرِها”، وهذا الانتقال رغم الفترة الزمنية ما بين معركة الكرامة في 21آذار 1968 وصدور الديوان والقدس ما زالت مغتصبة، لم يتوقف الحلم بكرامة جديدة تعيد لنا كرامتنا المثلومة، فهي ترى أن الحلم سيتحقق من جيل جديد لا يعرف المساومة فتقول: “ ياقدسُ…فمن شقٍّ في الجِدارِ، تُلوِّحُ يمينُ صبيٍّ، ما أخفى حُلمَهُ عنّا، ما وسَّد للريحِ شكوىً لأحزانِهِ”، وهي في نصها مملوءة بالأمل وواثقة بحلم لا بد أن يتحقق فتهمس بنفس النص: ” أنَّ غداً ….واعداً، منْ دَمٍ قد تَجذّرَ في السّــاحاتِ، وما جــفَّ……سوفَ يحلُّ، يُسابِقُ طُهراً، يَشــعُّ نجوماً“.
في رؤية الشاعرة لكثير من المسائل لا يفارقها الحلم، ففي نصها “من هواجس الحرب” ورغم حجم المشاعر الانسانية التي تبوح بها الشاعرة عن الحرب وتأثيراتها وما يتبقى منها، إلا أن الحلم لم يتوقف فهي تهمس بالقول: “ كمْ تَمــادتْ تلكَ الحربُ، فهل تنتهي، في يومٍ ما، تختفي، كي يُشرِقَ هذا العُمرُ، ويُزهِر هذا الحُلْمُ، فتصفو الحياةُ”، فهكذا نرى أن الشاعرة التي أجبرت على مغادرة وطنها وبلدتها سلواد إثر هزيمة حزيران 1967م، ترك بها هذا الشتات والاغتراب أثره منذ الطفولة فتألقت بشعرها، فهي لم تفقد هويتها سواء الذاتية او الاجتماعية أو الوطنية، فبقيت الأسس التي قامت عليها شخصيتها وهويتها الشاعرية وتركت تأثيرها الايجابي على نفسيتها، فلم يكن هذا الاغتراب ذو أثر سلبي كما يقول ويت white: “إن الأفراد تحكمهم قواعد وضوابط لا ينبغي تجاوزها، وهذه القواعد والضوابط تجعل الفرد يشعر بالاغتراب، وهذا الشعور يقلل من ابداعه” وهذا الرأي من ضمن مجموعة أراء حول الإغتراب اوردها الباحث محمود الهياجنة في كتابة “الاغتراب في القصيدة الجاهلية”.
هذه الأحلام الوطنية استمدت نفسها من الغياب القسري عن الوطن ومن الاشتياق له ومن ألآم الأسرى ومن دماء الشهداء، فكان لها نسبة كبيرة من أحلام على مرافئ الغيم ونرى ذلك في العديد من النصوص منها “انتظار” حيث الحلم مرتبط بدم الشهداء فتقول: “وأنا بانتظار السماء، لتحنو، تنشر أجنحة من بياض، وشالاتٍ للوعود، حمائمَ، زهرا تنثره.. في أعراس الشهداء”، وفي نصها “رحيق السواعد” يستمر الحلم الوطني وتخاطب الأسرى خلف قضبان معتقلات وسجون الإحتلال بالقول: “يُشرقُ هذا المدى، يخضر العمر، لأنك تاج الحلم، وياقوت الخاطرة”، وتحلم بالشهداء في نصها “من دفتر الروح” فتبوح روحها: “للشهيد الذي ما ودع أزهارَ الدارِ، صفصاف الدرب، حين اعتلى سدرة المنتهى، وأطل علينا، نجما، فوق شفاهِ النور”، وفي نصها “قمر آذار” ترى الحلم للوطن من خلال روح الشهيد عمر أبو ليلى فتهمس: “كعرائش للوردِ.. حلق، نافذة للوعدِ، وأنشودة للسنابل، موال عشق.. للمدن الساحلية”، وتشتاق لوطنها فلسطين وتحلم بفجر الحرية للوطن في نصها “رحيق المشاعر” فتبوح بحلمها: “وحُلم تراءى، بأن نهاراً جديداً سيأتي، لنغفو دهراً، بعد غياب طويلٍ، على صدرها”، والوطن لا يقتصر عند الشاعرة على فلسطين، فنرى البعد القومي في قصيدتها “إلى عمَّان”، حيث تهمس لها: “إلى عمَّان.. خذوني معكم، حيث عرين الروحِ، صهيل القلبِ، ونبض الشوقِ، وشهقة أول حبٍ على صدرها”، ونلاحظ في هذه القصيدة استعارة المطلع مع تعديل كلمة عمَّان بدلا من فلسطين، من قصيدة نزار قباني والتي غنتها أم كلثوم حيث مطلعها: “أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين.. خذوني معكم”، ويستمر الحلم مع الوطن في نص “سما وفلسطين” حيث سما أحد شخصيات رواية “جنة ونار” للروائي يحي يخلف حيث تقول: “جمعت شلالات زهر، لهذا الحلم، ضفائر ذاك الوعد”، ويبقى الأمل قائما في نصها “أمل” فتهمس: “لا بد سيشرق في ليلنا، أملا، تزهو بعرائشه، أعراس لأحلامنا”، ونراها مرة أخرى تتألق بالوطن الذي يتسرب من بين الايادي في نصها “أي حزن” وتبقى على الأمل والعهد بالقول: “أنا على العهد، أن شعاع النور، سينبثق الآن.. من فجر قادم، أملٍ واعدٍ، من عينيّ طفل، من جرحٍ لشهيد”.
الحلم الشخصي: في نصها “وكأننا لم نفترق” يأخذ الحلم فضاءات أخرى، فهي هنا تتحدث عن الماضي وغياب الآخر فتؤكد على أحلامها وكأن الفراق لم يحصل والجراح يتم طيها، فتهمس: “ويعيد إلينا، حكايا الوجدِ، فضاءً رحبا، يهدهد أحلام الياسمين، وتطوي جراح للمرحلة”، بينما نراها في نصها “حلم وردي” تهمس بالحلم: “ وسأغرَقُ في حُلُمٍ زاخرٍ، بِحروفِ الرّبيعِ، بأخضرِه، وأُعانِقُ تيجانَ الزّهرِ”، وهذا ما نلمسه أيضا في نصها “حد التعب” حيث تهمس: “ سأسافر في موج العينين، وأبحر في النهرين…..شراعا”، فنرى رحلة من فرح تسير بها الشاعرة من “عمر تشظى” تحمل معها في رحلتها “حقائب حزن”، فتصل مبحرة “في النهرين.. شراعا” وهي تهمس: ” أبحر حتى مرفأ الغيم” مسافرة في “موج العينين” حتى تصل إلى واحة الحب والآمان إلى “حضن ذاك المدى”، ومعه تصل إلى هدفها المنشود “أعانق في أفقه.. أقواس قزح”، فتهمس ” وألقي حقائب حزن تجذر في الأعماق”، فلم يعد للحزن مكان وآن لها أن تعيش الحلم وتفرح.
الحلم الشخصي بعض من بوح الشاعرة ففي نصها “امرأة عابرة” نجد حلمها من خلال حلم الآخر المخاطب بالنص فتقول: “كان بوحُك، يرسم للعمر أحلامه، مرفأً، جزراً، وربيعا يشرق في الذاكرة”، وفي نصها “يرحلون” تتحدث عن من رحلوا من الأحبة فتقول: “يرحلون، يتركون لنا غيمات الشوق، مرايا الحلم الأخضر، في صفحات العيون”، وفي نصها “من مرايا الغياب” تتحدث عن كل من غاب عن هذا العالم، فتقول: “تسافر، تنسى، اندهاش البداياتِ، حُلم النهاياتِ”، وفي نص “حنين” يتجلى حلمها بمخاطبة روح أمها التي رحلت بالقول: “وكيف أداري، هالات وجهك.. أمي، حين تطل عليَّ، كغيمات عطرٍ، كزهر اللوز وأجمل!!”، وفي نصها “من شرفة عينيك” تخاطب كل الأمهات اللواتي رحلن بقولها: “من شرفة عينيكِ، تحلو المدائن، تزهو بأعيننا الطرقات، فيطلق هذا البحر نوارس أحلامنا”، وفي العديد من النصوص يبرز الحلم الشخصي مثل قصيدتها لابنها حازم في نصها “إليكَ” حين تقول: “إليك بنيَّ، تحج الزهور، تسافر.. تشدو، تراتيل أنفاس ذلك السحر”، وفي مخاطبتها للآخر في نصها “نوارس قلبي” لا يفارقها الحلم فتهمس: “حين ترنو إليك، وتصبو لعشقٍ، تجلى بعينيكَ، تطلق شالات حلم.. تسامى”، وتخاطبه مرة أخرى في نصها “سأطلع لك” من خلال همسها: “سوف أطلعُ لك، من تفاصيل زهو الحكاية.. فينا، ومن نرجس الحلم فيها، أسطر فوق جباه الغيوبِ، بأني أحبكَ”، وفي نص “دعنا” نرى الشاعرة تحلق بنا بفضاء نص من عدة لوحات متلازمة، لا يمكن أن نحلق بلوحة بدون اللوحات الأخرى، لوحات سادها الحلم والرغبة والماضي والأمل رسمتها بريشة لغوية متميزة بالتشابيه والوصف، فكأنها جعلتنا نستمع لرواية مكثفة لحكاية انسانية مرسومة بالحروف، وفي نص “أنثى” وهو نص تفرد أنه على لسان ذكر تقول فيه: “حين تمد السهول أكف الوعود، وتعلن أنك سيدتي، حلم الجنة”، وهذه الأحلام الشخصية تظهر بصور مختلفة في نصوصها: قد يحدث/ مناجاة/ دعْ عنك/ انتظرني/ فراق/ ابتعد/ بيننا باب/ نقاء قلب/ رحلوا/ تنهيدة.
الحلم الإنساني: ويتجلى ذلك في نصها “بين الربيع وكورونا” تهمس بحلمها رغم كل قسوة الجائحة: “ليرسُمَ في الأفقِ …قوسَ قُزَح، وسِلالاً من نورٍ….حولنا، زركشاتٍ من أمَلٍ، أعراساً ….وشالاتٍ للفرح”، فتخرج من الخاص للعام، ومن حلم ذاتي إلى حلم شعوب ومجتمعات تعاني وما زالت من الجائحة العالمية وتحلم بريبع آت، والجميل في هذا النص أنه أتى لروح الشاعرة في ظل اشتداد الأزمة وكأن روحها تهمس لنا: “اشتدي يا أزمة تنفرجي”، وأن الشاعرة رغم الخوف الجاثم على صدور سكان الكرة الأرضية قاطبة، كانت تحلم بالفرح وترى أن هذا الوحش الذي اجتاحنا ليس أكثر من زائر عابر للطرقات، وأن نسمات الربيع والأمل والفرح سيكون لها دورها بكنس آثاره وعودة الفرح للأرواح المتعبة، وهذا الحلم الإنساني نراه أيضا في نصها “مرَّ العيدُ” حيث تحلم للناس بعيد جميل آت بعد أن مرَّ عيدٌ في ظل جائحة الكورونا مليء بالأسى ومنع التجوال فتحلم بعيد آخر وتقول: “فهل يأتينا؟؟ كشمس دافئةٍ، يمسح الضيم عن جرحنا، يهدينا.. شلالَ أحلامٍ، سِلالا من آمالٍ، لتشرقَ فوق الربى، أزهار قوافينا”، ونجد الحس الانساني في نصها “ميرا”، علما أن ميرا شخصية رئيسة في رواية يسودها صراع قومي طائفي ظلامي، ولكنها رواية ذات بعد انساني تحمل نفس الاسم للروائي والقاص قاسم توفيق، حيث تقول الشاعرة: “خبأت في وسائدِ عُشاقها، من أحلامٍ مشتهاة، دموعا تبوحُ، بلسع زنابقها، ومضت”، ويتجلى الحلم الانساني بنصها “صهوات” حين تهمس: “أن جدار العتمة، لا بد ينهار، أن شموسا ستشرق، تملأ هذا الكون.. صهيلا للنور، شالات.. صبواتٍ لأحلى نهار”.
وفي نهاية هذه الجولة المختصرة في “مرافئ الغيم” وأحلام الشاعرة رفعة يونس في أفاقها الثلاثة، ومن خلال أشعارها نرى حجم الالتزام والانتماء في روحها التي جالت في ابعاد إجتماعية ووطنية وانسانية، ونرى أن أحلامها رافقها التفاؤل والأمل بالتحقق، ولم تكن أحلام عبثية تتكسر على صخرة الواقع، فلم تعرف اليأس رغم كل الظروف المحيطة وبقيت محلقة بفضاء الحلم، ملتزمة بالانتماء رافضة الخنوع والاستسلام، فلم تنعزل عن هموم الوطن والمجتمع بالبعدين القومي والإنساني، وبقيت أحلامها متجددة تعبر عنها في كافة أشعارها، ومن خلال لوحات شعرية متعددة الصور والأشكال الجمالية المرسومة بالحروف تتألق الأحلام بصور مشرقة وجماليات مضيئة، ونرى في ديوانها جمالية اللغة وبساطتها وابتعادها عن الرمزيات المغرقة، فهي نابعة من الروح لتدخل الأرواح، وتبقى أحلامها قائمة على الأمل بالتحقق والقناعة بذلك دون أن تفقد الأمل وبدون أن يتلاشى الحلم.