قراءة في نصوص الشاعرة الليبية آمنة الأوجلي
مصطفى جمعة | بنغازي – ليبيا
آمنة الأوجلي امرأة شاعرة… تقع قصيدتها في ذلك البرزخ العنيد الذي إما أن تعبره المرأة-الأنثى بجسارة الكلمة وتحدي غموض الروح أو تبقى على تخومه العصية تناوئ الكلمات وتفقد زمامها…
إنها تلك الروح التي تمارس تمرداً داخلياً يطمح إلى تحطيم قوقعة الصمت، ويشرئب إلى أفق يروّض تلك اللوعة المشتعلة في الكلمة التي تحمل وحي المكاشفة، هامسةً بفحيح أسرارها الملتهبة النابعة من غور عميق…
إنها تجلس قابعةً في سكونها الضاجّ تنسج بأنامل الروح وشياً من الكلمات حيث تتحول المفردات عندها إلى قاموس خاص وتتشكل اللغة في نصها كانحناءات الجسد أو كمفاتن تتكشف على استحياء.
وستجد لغتها نابضةً في لوحةٍ متجانسة الحركة واللون في خفةِ راقصةِ باليه تخطو بموسيقى داخلية ذات إيقاع شديد الوضوح. ويمكن أن تحس بمحاولات تسلل أسرارها إلى شرفات من البوح المخملي في تجليات تبدو عبر النص و تمرّ كومضات من الضوء أو التماعات من البريق لا تخطئها العين، كما يمكن أيضا أن تعصف وتهبّ كاشفةً عن أعمق الرغبات وأكثرها عفوية وشاعرية كذلك. ولا تتردد عندما تصوغ جملتها الشعرية في أن تحمّلها كل ما يمكن أن تحمله الكلمات…
حادثني وحاكيني
وناغي بالهوى قلبي
وراودها شراييني..
اسكني في مدى عينيك
وعاند غدر أوسمتي
ازرعني بالمنى كرزا
أعذني من يباب تشريني،
حادثني
فقد كرهت وجه الحزن
وأنين الليل
وكرهت هروب المطر
وهديل الصمت
عمدني بماء حنينك
وأعد بيديك تكويني
حادثني
وازرعني بمسام غرورك
غيمة تلثم ازيز الريح
سوسنة تتهجى
فهارس أصدافك
وغمازة صوتك
تنهكني وترقيني
الفعني بصدرك
بوح قصيدة
واشرعني بنزغك
عصفورة
تحترف هسيس النار
بين ذراعيك
بلا وعد
تفتنني وتسبيني
ولايبدو تمسكها بالإيقاع الصوتي مصطنعا، بل هو جزء من جمالية النص نفسه، ولا توجد عندها تلك النزعة إلى الغموض والاغتراب المجازي، بل تجد أن الكلمات لا تبتعد عن زخمها الإيقاعى مهما ابتعد انزياح المعنى عن كلماتها، فهي تلاحقه بذلك الإيقاع النابض.
وفي هذا النص الذى قرأناه الآن تلامس آمنة آفاقاً شعرية حلّقت فيها شاعرات من قبلها وتشرق في نصها بإيحاء يذكرني بالشاعرة الإيرانية “فروغ فرخزادة” في قصيدتها “عمدني بنبيذ الموج“ ويلتقي التناص هنا ربما في اللاوعي داخل الروح الشعرية لكلا النصين باعتبارهما ينبعان من المرأة كشاعرة…
“عمدني بماء حنينك”.. والشاعرة تستخدم العبارة عن إدراك مسبق بأن التعميد يرمز إلى الولادة المعنوية الحقيقية للإنسان ككيان إذ أن الشاعرتان استخدمتا الماء مجازاً والذي هو حقيقة التعميد وأصل الحياة. وهذه برأيي لمحة مهمة تلفت النظر لشمولية الترجمة الشاعرية للمفردات عند آمنة في تناصها مع شاعرة لها مكانتها في الأدب العالمي.
وقد لا يكفي نص واحد لنرسم به ملامح عامة للغة الشعرية عند آمنة الأوجلي التي تمتلك كما قلت قاموسها الخاص الذي تقتني فيه مفردات ذات تأثير حسي قوي ذلك عندما تحتوي جملتها الشعرية على “فرموناتها” الخاصة ليتحول النص إلى تناغم هارموني مختلف التردد بين الهمس إلى النداء البواح. وبين الغموض المستتر وراء الكلمات إلى البوح في ذروة المكاشفة. فكما رأيناها تقول:
اسكني في مدى عينيك
وعاند غدر أوسمتي
ازرعني بالمنى كرزا
أعذني من يباب تشريني
وكأنها تحيط بالغموض ماتشتهيه لتجعلة فاكهة -كرزا- في أمنياتها وتلوذ بالإخضرار والحياة “ازرعني”. من الجفاف والخريف…
“يباب تشرين”..
كأنها شجرة تستعيذ من سقوط أوراقها.
نراها أيضا تزيل الستار وتنزع قناع الغموض وتخرج من المجاز إلى العلن:
حادثني!
فقد كرهت وجه الحزن
وأنين الليل
وكرهت هروب المطر
وهديل الصمت
عمدني بماء حنينك
وأعد بيديك تكويني !!
بارعٌ هو هذا الخروج وهذا التناغم في النص بين الظل والضوء وبين الهمس والهتاف والقدرة على تحويل المشاعر إلى أصوات رفرفة أو حفيف هامس أو لون في لوحة تختزل انفعالات شتى تستطيع رسمها بالكلمات…
وحفيف يتلألأ
في أرجاء الروح
يمتزج بالحنين
باللهفة
في فوضى تلعن
الحذر وتمجد الخدر
سوسنات الشوق
تصطف ماجنة
تنزرع في مدارات
العطش الشاسعة
أي سرد يعبث بأزرار
الحذر ويتآمر على
أنسجة ليلي
الكثيف..
أي وهم يرسم
عيناك
طوقا للوصول
يبعثني على صخورك
التمسها فسيفساء
مرقشة بأنفاس
عطرك القاسي
يا لحن دمي
يا كرز شفتي
وأريج غدي
أردتك في برزخ
ظمأي
حضن مؤبدا!!
في هذا النص الذي لم أقرأه بل استمعت إليه بإلقاء رخيم يرافق سيمفونية من الأحاسيس تذهب عميقا في النفس، وقفت أمام اتحاد المفردات بالرؤيا حيث يتحول النص إلى إضاءات بصرية فالحنين يتلألأ، والشوق يزهر سوسنا، وشاسعة هي مساحات العطش، والليل نسيج كثيف، والعطر أنفاس ملونة، والدم لحن قاني!!
ماهي القصيدة إذاً عند آمنة الأوجلى؟.. إنها مساحة من الضوء، واللون، والهمس، والنداء، والصوت، والنغم، والبوح المستتر، والبث الجهير، والكلام المباح.