الغيوم النفسية
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
أعلن المفتش عن قيامه بزيارة لإحدى المدارس الابتدائية في قرية من القرى، وفي طريقه للمدرسة توقف المفتش بسبب عطل فني في محرك سيارته، وبينما كان المفتش حائراً أمام السيارة، مر تلميذ من القرية فسأله عما إذا كان في حاجة للمساعدة، فأجاب المفتش: هل تفهم في محركات السيارات!؟ لم يطل التلميذ الكلام؛ بل أخذ الأدوات وبدأ العمل تحت غطاء المحرك المفتوح، وما هي إلا لحظات حتى طلب إلى المفتش تشغيل المحرك، فإذا به يزمجر من جديد ويعمل بانتظام. شكر المفتش التلميذ وسأله بفضول عن سبب وجوده خارج المدرسة في هذا الوقت من الصباح، فأجاب التلميذ ببراءة: سيزور المفتش مدرستنا اليوم، وبما أنني أكثر التلاميذ غباء في الصف؛ فقد أرسلني المدرس إلى البيت!
نصادف في حياتنا كثيراً من الناس درجوا على رمي الآخرين بنبال الألفاظ سيئها ومحبطها ولا يُلقون بالاً ولا يتحسبون أثراً لمن يتلقى هذه النبال ويعاني منها ويقاسي ألمها، تتنازعه نفسه بين رفض ورد وصد، وبين شك وظن وريب. وكم يتمنى أحدهم أن تغلَّق أفواه، وأن تُطبَق شفاه عن الزجر والإحباط، يلتمسون راحة لأنفسهم من ألفاظ تهدم ولا تبني، تجرح ولا تُفرح، تُفسد ولا تُسعد.
ولنكن على يقين أن توالي المحبطات الكلامية التي تخرق سمع الصغار بل والكبار، تشوه المرآة الداخلية للنفس الإنسانية؛ فتنتشر المحبطات كضباب على تلك المرآة؛ فتختفي شيئاً فشيئاً صورة الشخص المتأمل ذاته، لتشوه صورته أو تغيب تماماً، ليردد بعدها عبارات تعكس هذا الضباب النفسي فيقول: “لا أعرف حقيقة ذاتي، ولا ماذا أريد، ولا أدري ما مجال الدراسة الذي يناسبني، أنا عاجز عن الاختيار..” إنه إسقاط معنوي على المرآة الذاتية المطموسة التي حجبتها ضبابيات الكلمات السلبية.
ومن المحبط أيضاً، تقييد النجاح في الحياة بصورة إفرادية، تكون المدرسة هي الصورة الوحيدة لها، وإنما يجب البحث والتنقيب في الصورة الذاتية الكلية لنحقق النجاح في مناحي أخرى من الحياة. ولنعرف نقاط الضعف، ولكن لا ننشغل بها، فالأفضل أن نعرف مقابلها، إنها نقاط القوة ولنركز عليها ونشجعها، ليكون النجاح أكثر فعالية وكفاءة، وقد تدهش أن نقاط ضعفك بدأت تتلاشى واختفت عن ناظريك بل وعن أنظار المحيطين بك.
ومما يدعو للتفاؤل أن هذه الغيوم النفسية قابلة للمحو.. بِيدٍ مبسوطة بالخير باطنها مشبع بالأمل وظاهرها يزخر بالخير، وبين ثناياها لفظ إيجابي ينبئ عن فكر بناء، وإحساس مرهف، ومحبة ورقي، كما يجلب الثقة والثبات والمثابرة، يرفع التوقعات، ويزيد الوعي، ويحرك القلب، ويبعث على الهدوء والاطمئنان.