ترتيب القصيدة في “دون السماء الثامنة” للأسير كميل أبو حنيش
رائد محمد الحواري | فلسطين
أولا – قصيدة دون السَّماء الثامنة
يا لَيْل كَمْ طَال اِنْبِلاجُ
ضِيَاءِ فَجْرِكَ !!!
يا لَيْل كَمْ طَالَ اِنْتِظارُ
نزاعِ مَوْتِكَ !!!
يا لَيْل مَاذَا لَوْ رَحَّلتْ
وَلَوْ قَلِيلَا ؟؟؟
وتركتني ألهو قَلِيلَا …
وأهيم حُلَّمَاً فِي جِبَال
لَمْ تَعدْ مُلَّكَاً لأقدامي …
وتركتَني ألهو وَحَيَّدَاً …
فِي حَدائِقِ بَهِجَتِي …
وتركتني حُراً قَلِيلَاً …
كَيْ اِزْوَرَّ حَبيبَتُي فِي حَلَمِهَا …
وَأقْبَلْ الإغفاءة الْحَمْرَاءَ
بَيْنَ عُيُونِهَا …
مَاذَا يُضيرك لَوْ رَحَّلَتْ
كَمَا الْغَيُوم!!!
وَرَحَّلَتْ عَنْي نِصْفَ عَام
مثلما اعْتَدَتْ الرَّحِيل
عَنْ الْجِبَالِ الْبيض
فِي قُطْب الشّمال
فربما سأعيد ضَبْطَ الْوَقْتِ
وأعيد تَرْتِيب الطبيعة .. مِنْ جَديد
وأعيد تَوْقِيت الحكاية كُلَّهَا …
دُونَ السَّمَاءِ الثامنة .
ثانيا – القراءة النقدية
قبل فترة تم مناقشة موضوع أدب الأسرى في إحدى حلقات “كتابات من خلف القضبان” التي تقيموها رابطة الكتاب الأردنيين، وقد طرح أحد المشاركين ضرورة أن نتجاوز التعاطف مع ما يكتبه الأسرى، إلى التوقف جماليا وأدبيا وموضوعيا، واعتقد أن هذا الأمر مهم ويجب أن يعمل به.
اعتقد أن هذه القصيدة تعد نموذج لذلك الأدب الذي طالب به ألزميل في الرابطة، فهي قصيدة في غاية الجمال، وتفيض مشاهر إنسانية، رغم أنها كتب داخل القضبان، يبدأ الشاعر القصيدة بصيغة النداء “يا ليل” والتي يكررها ثلاث مرات، وهذا يأخذنا إلى معنى التكرار وما يحمله من رمزية، فرقم ثلاثة ورقم سبعة من الأرقام المقدسة دينيا، ولها مدلول الاستمرارية والديمومة، وهذا ما يجعل نداء الشاعر مستمر ودائم، بمعنى أنه نادى وينادي وسينادي.
لكن فحوى ومضمون النداء يحمل أكثر من فكرة، منها: انتظار الفجر/:
“يا لَيْل كَمْ طَال اِنْبِلاجُ
ضِيَاءِ فَجْرِكَ”
ومن جمالية القصيدة أنها بدأت بفاتحة نداء بيضاء: ” “انبلاج، ضياء، فجرك” وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة إلى ما يريده الشاعر ويحتاجه وينادي به.
ثم يأتي مضمون صيغة النداء الثاني ليخدم فكرة الموت:
” يا لَيْل كَمْ طَالَ اِنْتِظارُ
نزاعِ مَوْتِكَ ” ما يحسب للشاعر أنه قدم الحياة على الموت، وهذا يأخذنا إلى ما يحمله العقل الباطن من فرح وأمل في الحياة، لهذا تم تجاوز الجدران وما فيها وخلفها من ألم وقهر إلى حالة الفرح/الأمل، فجعل الحياة/الفجر يتقدم على الموت.
“يا لَيْل مَاذَا لَوْ رَحَّلتْ
وَلَوْ قَلِيلَا ؟؟”
النداء الثالث جاء أقل سوادا فتم استخدام “رحلت” وبدا النداء وكأنه خطاب ودي بين شخصين. إلى هناك يكون الشاعر قد أوصل لنا نداءه، وما يتوق إليه من فرح/انبلاج وضياء وفجر في المستقبل، لكن قبل أن ينهي الشاعر ثلاثية نداءه “يا ليل” يقدمنا من ثلاثية جديدة جاء من خلال تكرار “وتركتني” وهذا أيضا يخدم فكرة الاستمرار والديمومة التي يريدها/يعاني منها الشاعر، والتي يبدأها بهذه الصيغة:
“… وتركتني ألهو قَلِيلَا
وأهيم حُلَّمَاً فِي جِبَال
لَمْ تَعدْ مُلَّكَاً لأقدامي”
قبل الدخول إلى مضمون المقطع، نتوقف عند الألفاظ المستخدمه في: “ألهو، وأهيم، حلما” نلاحظ أن الشاعر يستخدم ألفاظ فيها حرفي الهاء، وهذا يأخذنا إلى الطريقة التي يُلفظ بها، وما فيها من ألم وما يحصل بعد لفظه من راحة، فعندما نسمع لفظ “آه” نعلم أن هناك شخص متألم/يتألم، لكن المُتألم بعد أن يخرج “آه” يشعر بشيء من الراحلة، فقد أظهر ألمه للأخرين وأسمعهم وأصل إليهم ما فيه من ألم، فيبدو وكأن الألم انتقل من المُخرج إلى السامع.
وأيضا نجد تقديم فعل “ألهو” على “أهيم” فألهو فعل حقيقي، يُمارس فعليا، لكن فعل “أهيم” متعلق بالخيال/بالتفكير/بالعقل، وإذا ما توقفنا عند لفظ “ألهو” ولفظ “أهيم” نجد الأول يعطي معنى استمرارية أكثر لوجود حرف الواو في ناهية لفظ “ألهو”، والذي يستغرق لفظه مدة أطول من حرف “الياء” في كلمة “أهيم” لأن الميم جاءت لاحقة بالياء، وهذا يأخذنا إلى أن الشاعر يقدم حاجته العملية/الفعلية على حالة التخليل/”أهيم”، ومن يتابع ما يرسله كميل من خلف الجدران، يعلم أنه يقضي يوما أكثر من ثماني ساعات بين القرأة والكتابة، بمعنى أن طريقة تقديمه لفعل “ألهو” كانت حقيقية ومنسجمه مع واقع الحياة اليومي الذي يعيشه في الأسر، فهو يحتاج للعمل/للسلوك/للفعل أكثر من حاجته للتخيل/لأهيم.
من جمالية هذا المقطع، الصورة الشعرية التي جاءت به، فهو يقدم ذكر “جبال” على “لأقدامي” ويُعرف ويملك نفسه “لأقدامي” ويجعل ال”جبال” نكرة، وإذا توقفنا عند “لم تعد” نجد تركيبة شعرية لافتة.
“التكرار الثاني جاء فيه:
“… وتركتَني ألهو وَحَيَّدَاً
…فِي حَدائِقِ بَهِجَتِي”
تأكيدا على ما قلناه عن تقديم الحاجة العملية/الفعلية على الحاجة التخيلة/العقلية نجد هناك تكرار للفظ “ألهو”، ونلاحظ أن في الحالة الأولى ذكر الشاعر الطبيعة/”جبال” وهنا أيضا يذكرها من خلال: “حدائق” لكن الأولى كانت طبيعة صافية، والثانية كانت طبيعية مقرونه بحالة الشاعر/بهجتي” وهذا المزج بين الطبيعة والنفس يأخذنا إلى تعلق الشاعر بانبلاج الضياء/الفجر، الذي افتتح به القصيدة.
يقول في التكرار الثالث:
” وتركتني حُراً قَلِيلَاً …
كَيْ اِزْوَرَّ حَبيبَتُي فِي حَلَمِهَا …
وَأقْبَلْ الإغفاءة الْحَمْرَاءَ
بَيْنَ عُيُونِهَا …”
هذه المرة أولى التي يذكر بها المرأة، فبدأت وكأنها جاءت بأثر من الطبيعة، جبال/حدائق” نلاحظ أن الشاعر يستخدم تعابير ناعمة: “أزور، حبيبتي، حلمها، الإغفاءه، الحمراء، عيونها” فالمقطع ويبدو كأنه حقيقة، لهذا تم محو/إزالة السجن والجدران تماما، وأخذ الحديث منحى متعلق بالمرأة وبالحب وبالعاطفة.
واللافت في المقطع طريقة ترتيبه، فهو يبدأ بفلظ “حرا” والذي سيكون مقدمة لفعل “أزور” وبعدها تتدفق عاطفة/حاجة الشاعر إلى “الحبيبة، أقبل، عيونها”، فهذا الفعل والعاطفة الإنسانية تكون/تحصل بعد “حرا” الذي يحتاجه الشاعر، وهذا دعوة (مبطنة) للإسراع في عطاءه الحرية التي ينشدها.
“مَاذَا يُضيرك لَوْ رَحَّلت
كَمَا الْغَيُوم!!!
وَرَحَّلَتْ عَنْي نِصْفَ عَام
مثلما اعْتَدَتْ الرَّحِيل
عَنْ الْجِبَالِ الْبيض
فِي قُطْب الشّمال”
يعود الشاعر إلى مخاطبة الليل، لكن دون استخدامه لحرف النداء “يا” ودون ذكر “ليل” وهذا (الإخفاء) يشير إلى (تعب) الشاعر من المناداة، مكتفيا بناداءه ـ المكررر ثلاث مرات ـ الذي يعطي مدلول كان وما زال مستمرا.
نلاحظ في هذا المقطع تكملة لتكرار “يا ليل/تركتني” من خلال “رحلت” فهنا ذكر ثاني وثالث ل”رحلت”، وهذا تأكيد على إصرار الشاعر على (رحيل الليل).
وإذا علمنا أن الرحيل متعلق بشيء غير مرغوب فيه “ليل” نصل إلى نتيجة بيضاء موجوده في: “الغيوم، الجبال، البيض، الشمال”.
يختم الشاعر القصيدة بهذا المقطع:
” فربما سأعيد ضَبْطَ الْوَقْتِ
وأعيد تَرْتِيب الطبيعة .. مِنْ جَديد
وأعيد تَوْقِيت الحكاية كُلَّهَا …
دُونَ السَّمَاءِ الثامنة “
يستوقفنا لفظ :”ترتيب” الذي نجده في ترتيب القصيدة وتنظيمها، وكأن الشاعر يريد أن يقول أنه قادر ترتيب الطبيعة/الكون كما رتب القصيدة، وأنه قادر على منح الطبيعة الجمال كما منحه القصيدة، وأنه سيظهر الفرح في الطبيعة كما أظهر المرأة في القصيدة، لهذا لنسرع في جعله “حرا” لنستمتع بما (سيخلقه) لنا من جمال وفرح.
قبل مغادرة القصيدة ننوه إلى أن هناك مجموعة ألفاظ متعلقة بالوقت: “طال (مكررة)، عام، ضبط، الوقت، توقيت” وهذا يعطينا أشارة إلى أثر الوقت/الزمن على الشاعر، فالزمن داخل الأسر عامل ألم ووجع، لهذا نجده حاضرا وبقوة في القصيدة، ورغم هذا إلا أن القصيدة قدمت بصورة ناعمة بيضاء، بعيدا عن الصخب والقسوة، وهذا يعد انتصار لكميل على السجن وعلى السجان معا.