حديث الغريب.. أصداء الرحلة (12)

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا

مفهوم الإنسانية لا يتجزأ، وهذا ما يُعَوَّلُ عليه في جمع بني الإنسان تحت وهجها وفي خفارتها، ولا يمكن لها أن تصبح وجهة نظر، لأنها لو تعددت وجهات النظر فيها، لبررنا كل البشاعة التي حصلت منذ بدء الخليقة إلى اليوم واستمرارها إلى الغد، الغد القريب والبعيد، ولما انتظرنا في لهفة الأمل غداً يأتي علينا بآيات الجمال التي نشتهيها لحظات وجودنا، حيث ستصبح البشاعة طريقا للمزيد من الجمال، بحسبة بسيطة لإظهار المتناقضات بعضها البعض، فيكون القبح مجرد صورة وهمية لها فضل بجعلنا نتمسك بنقيضها، هكذا لا نكران لوجود ولا تنمر على مشهد أو معنى ما لم يفارق الإنسانية.
وجع المشهد لليوم أحاول ابتلاعه، ولليوم أغص به، لليوم تعلق في حلقي كل شتائم طفل في الشوارع الخلفية على هذا العالم، على كل بشاعة لا تكون دليلا إلى الجمال، وعلى كل معنى مات فينا للإنسانية.
كنتُ قبل عملي في سيارات الهلال، أعمل لدى المنظمة نفسها (الهيئة الدولية الطبية)، لكن في أحد مراكزها داخل مدينة دمشق، وكان في مساكن برزة، يومياً أقطع المسافة من جديدة عرطوز إلى هناك مرورا بمنطقة المعضمية، في يوم رأيت جثة على الطريق، مرمية بجانب درج نفق للمشاة على الأوتوستراد, كل المحاولات لمعرفة صاحبها باءت بالفشل هو مكان لحاجز من الحواجز الأمنية، على مفرق منطقة داريا من المعضمية، هذا الحاجز الذي أخذته يد الخراب بتفجير أودى بحياة كل من كان يقف هناك، جمعت أشلاء جثث الجنود، وبقيت هذه الجثة وحيدة لايجرؤ أحد على دفنها أو حتى الاقتراب منها لمعرفة هوية صاحبها، ولو كانت من جثث الجنود كانت جُمِعت مع ما جُمِعَ من الجثث، لكن حتماً هي جثة لغريب، أو لرجل كان يمشي في الطريق، أو ربما لواحد من الذين فجروا المكان، في هذا الوقت من الخراب، صرتَ تخشى أن تُحِسَبَ على أحد الطرفين، ولو كانت الجثة موالية، لن تسلم من بطش المعارضة المزعومة، وإن كانت من المعارضة المزعومة، لن تسلم من بطش الموالين، كنتُ في كل يوم وأنا في طريقي إلى العمل أراها تتناقص كقصعة اجتمع حولها من كان به جوع قديم ، حتى أتت الكلاب عليها كلها، ولم تعد ترى إلا قدمين ترتديان حذاء، وخصل من شعر مغبر، وبعض قطع من قماش ممزق مترامية حول قدمين بحذاء.
الخوف من مجهول معلوم، لم يترك لأحد فرصة في ستر عورة الجثة، أو في إكرامها بدفنها، أحوال متناقضة من البشاعة بدأت تظهر مع كل حدث جديد، على ما يبدو شوكة الخوف لم تنكسر بل ازدادت شأوتها، الذين كسروا شوكة الخوف أضحوا مخربين تحت اسم الثورة، الثورة التي ماتت في مهدها، هذا إن كانت ثورة أصلاً، فكل حركة دون تخطيط أو رسم جدواها مصيرها الفشل حتماً، كل حركة عشوائية مصيرها التلاشي، على أن الرد عليها من النظام لم يكن عشوائيا، كما كانت عشوائيته حين لا يفرق في الرد بين مدنيين عزل أو مسلحين.
هذا الانهيار في القيم الإنسانية، وهذا الانحطاط في المشاعر والشعور، لم نكن نلحظه أبدا في سوريا، صرت أتساءل، هل كان كل ذلك يختبئ تحت نفس الخيمة (الخوف)، أو أنه لم يكن موجوداً وطبيعة الحرب فرضته؟!.
أسئلة برسم الزمان ليجيب عنها، كما الإنسانية على عاتق الإنسان ليفعلها في وجوده، لكن حتماً لن يكون هذا في أزمنة الحروب.

صديقي
سوسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى