الممانعة النفسية للشعوب مقياس لاستقرار المجتمع
د. طارق محمد حامد
يبهرنا شعب مصر العظيم قبل قرنين من الزمان في تاريخ مصر الحديث بثورتي القاهرة الأولي و الثانية عامي 1799م و 1800م علي المحتل الفرنسي كذلك ثورة أحمد عرابي 1882م و ثورة 1919م و ثورة يوليو 1952م ثم آخيرا و ليس آخرا ثورة يناير 2011م ، و الذي ينظر إلى هذه الثورات العظيمة من منظور تحليلي ونفسي بحت يجد ارتباطها الوثيق بالممانعة النفسية للشعب المصري و التي تعتبر المحدد الرئيس بين الحاكم و الشعب و تعد مقياسا لاستقرار المجتمع إذا توفرت بين طبقات المجتمع و معيارا للإيذان بالتغيير وحتمية الثورة إذا انهارت هذه الممانعة والمقاومة النفسية حال تعرضها لشتي أنواع الضغوط عليها و منها:
الضغوط السياسية والتي تمثلت في المحتل الفرنسي في ثورتي القاهرة الأولي والثانية من حيث الإحتلال الصليبي لمصر ونهب ثرواتها وقتل مئات الآلاف من المصريين تحت آلة القتل الصليبية وبدعوي المقاومة الشعبية للمحتل الفرنسي حتي تمادوا في سحق الرموز و المنابر الدينية و التنكيل بعلماء الأزهر الشريف الذي أظهر شراسة في المقاومة الشعبية فقتلوا سليمان الحلبي الطالب الشامي بالأزهر الشريف ودنست خيولهم النجسة الجامع الأزهر باقتحامه و جعلوا بعضه اسطبلا لخيولهم و نكلوا بالشيخ محمد كريم والشيخ عمر مكرم، عند هذا الحد انهارت الممانعة النفسية التي تحيط بالشعب المصري المانعة من الإنفجار الشعبي فما كان إلا أن اندلعت ثورتا القاهرة الأولي والثانية وخرج الشعب المصري عن بكرة أبيه يقاوم المحتل الفرنسي فدبت الإنهزامية في جنده بعدما مني قائدهم نابليون بونابرت بالهزيمة تلو الأخرى في أوروبا فخرجوا صاغرين من مصر .
أما في ثورة القائد العظيم أحمد عرابي فكانت ثورة عظيمة سميت بعد ذلك هوجة عرابي و هي تسمية جانبت الصواب و جافت الحقيقة لأنها ثورة عظيمة علي إهانة الشعب المصري و علي استبداد الخديوي الأهوج توفيق بن اسماعيل حفيد محمد علي الكبير و الذي كان هو و حاشيته صنو الخيانة التي أدت إلي احتلال مصر من قبل الحملة الصليبية البريطانية سنة 1882م و نهب ثروات مصر و ظل الشعب يرزح تحت الإحتلال الغاشم في ثالوث الفقر و الجهل و المرض استمر سبعين سنة عجافا.
ثم قامت ثورة 19 اعتراضا على إعلان الحماية البريطانية علي مصر ونفي الزعيم سعد زغلول أبان الحرب العالمية الأولى ، هذه هي الأسباب الظاهرة لكن في حقيقتها انهيار الممانعة النفسية للشعب تجاه تسلط المحتل البريطاني علي الحياة العامة في مصر منذ الإحتلال سنة 1882 م واتفاقية سايكس بيكو و الوفاق الودي بين انجلترا و فرنسا و إعدام الفلاحين شنقا في حادثة دنشواي و فرض الحماية البريطانية علي مصر و الانتداب البريطاني علي فلسطين تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور وزير خارجية الإحتلال لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وصاحب انهيار هذه الممانعة النفسية نوعا من الوعي الجمعي للشعب المصري فقامت الثورة علي كل الممارسات والتراكمات الاستبدادية الإستعمارية الفاشية و ليس بمقدورنا أن نختزل أسباب قيام هذه الثورة العظيمة في سبب أو سببين ظاهريين و نغفل كل الأسباب الحقيقية.
أما انقلاب الضباط الأحرار أو ثورة يوليو 1952م كما يحلو للبعض أن يطلق عليها فكانت علي ستة أشياء كما جاء في إعلانها و هي :
- القضاء على الإقطاع.
- القضاء على الاستعمار
- القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم.
- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
- إقامة جيش وطني قوي.
- إقامة عدالة اجتماعية
و هذه أسباب تبدو في جوهرها أسبابا عظيمة و لكن لم يتحقق منها شيء بشكل حقيقي مكتمل ، فلم تقم في مصر بعد الثورة أية حياة ديمقراطية سليمة و الجيش الوطني القوي كان قائده عبد الحكيم عامر و من فوقه جمال عبد الناصر اللذان أدخلا الجيش في أتون حروب وهمية أزهقت الأرواح و أقامت الأتراح في كل شبر من الوطن العربي حتي يوم العزة والكرامة و نصر العاشر من رمضان 1393 هجرية السادس من أكتوبر 1973 م حينما تم بناء الجيش بقيادات حقيقية أمثال الفريق محمد فوزي والمشير أحمد إسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلي و اللواء الجمسي والمخلصين الأوفياء من أبناء هذا الوطن العظيم فتم النصر وتحرير سيناء الحبيبة وهذا في حد ذاته يعد ثورة تصحيح المسار في القوات المسلحة بعد انهيارها عقب نكسة 67 و الذي تسبب فيها نظام يوليو الناصري.
وأما عن القضاء على الاستعمار فما زلنا مستعمرين فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا بأذناب الاستعمار الذين يتلفعون بعباءاتنا و يحملون نفس أسمائنا ويسكنون بين ظهرانينا و لكنهم كالسوس ينخر في البناء حتي يتهاوي و يسقط.
والعدالة الاجتماعية مفتقدة تحت آلة الفساد والمحسوبية والاستئثار بثرواتنا لصالح طغمة من الفسدة الذين نهبوا ثروات البلد وأفقروا و أمرضوا و جهلوا الشعب لتدني مستوي الخدمات الصحية و التعليمية و المعيشية .
وكانت أسباب قيام انقلاب يوليو 52 هي هي قيام ثورة 25 يناير 2011م، التي فقد الشعب فيها كل قواه في المقاومة و الممانعة النفسية فهب ثائرا من أجل التغيير و تحسين مستوى الحياة التي يعيشها و لكن تم تغيير الرأس و بقي الجسد كما هو فكان أشبه بتغيير أفعواني خضع فيه الشعب لنظرية الفوضي الخلاقة والمؤامرة لإعادة استنساخ النظام السابق لثورة يناير.
ونخلص من هذا الطرح أن قوانين الشعب الثائر مكرورة والقانون الأساسي هو المراهنة علي قوة تحمل الشعب للظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية وهو ما وصفناه بالممانعة والمقاومة النفسية ولسان حال الشعب يقول لمن يحكم: لا تراهنوا علي قوة تحمل الشعب المصري واعتبروا من أسباب الثورات التي قام بها الشعب علي مر التاريخ الحديث خاصة ، فقوة تحمل الشعب لها ذروة إذا بلغها انفجر و ثار ، وإن عدتم لعهدكم مع الشعب إفقارا و تجهيلا و إذلالا عدنا فاعتبروا.