إجراءات الدراسة.. حلم يتحقق!
أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه | أستاذ المناهج وطرق التدريس – جامعة جنوب الوادي – مصر
لاحظت أن كثيرا من الباحثين ما إن ينتهي السيمنار – سواء بالموافقة على الموضوع وتسجيله أو التسجيل بعد طلب التعديلات- حتى يسأل مشرفه: ما هي الخطوة التالية؟ ماذا أفعل الآن؟ ومثل هذه الأسئلة لا ينبغي أن تصدر بعد الموافقة على الخطة، ببساطة لأنها خطة؛ والخطة تعني خارطة طريق road map توضح الخطوات التي ينبغي على الباحث القيام بها لتنفيذ بحثه. كما أن خطة البحث تعتبر بمثابة العقد بين الباحث والمؤسسة التعليمية بضمانة من المشرف، ولذا فإن أي تغيير جوهري في موضوع الرسالة يظهر في العنوان ينبغي له إقرارا من مجلس القسم مرة أخرى وربما يترتب عليه تأجيل أعمال مناقشة الرسالة ستة أشهر على الأقل.
ولذا فينبغي على الباحث عند كتابة إجراءات الدراسة أن يفكر في المدى الزمني الذي ستتم فيه خطوات تنفيذ البحث، وهذا المدى الزمني timeline جانب أصيل في مقترحات الخطط التنفيذية research proposals خاصة تلك المقدمة للحصول على دعم مالي. كما أن بعض المؤسسات الأكاديمية الكبرى تلزم الباحث – والمشرف – بتقديم تقرير شهري أو دوري عن المراحل التي تم إنجازها طبقا للمدى الزمني المذكور في إجراءات الدراسة بالخطة المعتمدة.
ولكن لأن الباحث في بلادنا – في الغالب- لا سيطرة له على مقاليد الأمور في النواحي الزمنية، تتغاضى الأقسام عن تحديد الأسابيع والشهور التي سيتم فيها تنفيذ الأجراءات المتسلسلة؛ فالباحث لا يملك أن يحدد موعداً لتسجيل موضوع رسالته بل يعتمد الأمر على وجود مكان خال في السيمنار الذي يعقد بالحجز بين الباحثين المتقدمين، كما لا يملك الباحث – في العلوم التربوية- تحديد المدى الزمني لقبول الإدارات التعليمية تنفيذ موضوع الدراسة على طلاب المدارس أو المعاهد، ولا يملك تحديد المدى الزمنى للاستجابة المتوقعة من الأساتذة المحكمين عند تحكيمهم للأدوات، ولا يملك حتى تحديد المدى الزمني لاستجابة مشرفه نفسه على أحد فصول الرسالة عند تقديمه للمشرف للقراءة والمراجعة والتعليق. أما في برامج الدراسات العليا التي تتبع أسلوب الساعات المعتمدة، ينبغي على الباحث والمشرف – والقسم العلمي- التقيد بعدد من الأسابيع معين ومحدد بدقة قبل مناقشة الرسالة. وفي بعض الدول الغربية يعلم الطالب من اليوم الأول في برنامج الماجيستير متى -وفي أي يوم- ستتم المناقشة ومتى سيحصل على الدرجة.
أقول إنه ينبغي للباحث في برامج الماجيستير والدكتورة التقليدية أن يضع نصب عينه أهمية المدى الزمني وإن لم يستطع السيطرة عليه، فالأمر يعتمد على تنظيم تسلسل الخطوات أكثر من التنفيذ الفعلي حسب مخطط المدى الزمني. ونحذره من استنساخ خطوات إجراءات الدراسة من خطط الزملاء السابقين أو الرسائل السابقة، فكل خطوة تكتب في الخطة هي في الحقيقة حصيلة مجهود يبذل وقراءات تتم وليالي يسهر فيها الباحث على القراءة والتحليل والكتابة وإعادة الصياغة وبناء الأدوات وتصحيح الأختبارات ومعالجة البيانات إلخ.
وعلى العموم، فإن الخطوات الثابتة في مخططات الأبحاث التجريبية في العلوم التربوية ينبغي أن تبدأ بـ:
- استمرار الاطلاع على الدراسات السابقة وتحليليها والإفادة منها. وهذا البند لا ينبغي أن يكون منقطعا فينتهي ثم ننتقل إلى ما بعده، بل هو بند مستمر باستمرار الرسالة حتى يوم المناقشة وربما بعد المناقشة كذلك إذا كان ثمّ تعديلات عليها حتى يوم تسليمها النهائي للقسم. ولذلك قلنا (استمرار) و ليس الإطلاع مباشرة. والسبب في ذلك هو أن الدراسات تتوالى يوميا في موضوع البحث، وما أطلع عليه الباحث ربما يفيد ولكن الإطلاع على الجديد والأحدث – بالتأكيد – أكثر فائدة ويجعله أكثر إلماما بالموضوع حتى قبيل تقديم البحث بشكل نهائي. وأذكر أنني أثناء المراجعة التنسيقية النهاية لرسالة الماجيستير، وجدت دراستين نشرتا في نفس اليوم، فضممتهما ضمن فصل الإطلاع على الأدبيات وغيرت بناء على ذلك في مناقشة النتائج بما يناسب نتائج الدراستين الأحدث، وأثرّ هذا على ترقيم الصفحات وعلى حجم الرسالة على العموم، لكنه كان ضروريا لتكون الرسالة شاملة لأحدث ما تم في الموضوع إلى لحظة النهاية.
- الخطوة الثانية من خطوات الإجراءات هي بناء التصور النظري الذي سينبثق منه البحث الميداني. وهنا يلجأ الباحث للكتب المرجعية والمقالات النظرية review articles التي ترسخ المباديء العامة للمتغير التابع وطبيعته وللمتغير المستقل وأهميته. وينبغي أن يُطعّم هذا التصور بنتائج البحوث السابقة، للتأكيد على مضامينها، وأما أن يفرد باب في الرسالة للإطار النظري وأخر للدراسات السابقة فهو غير طبيعي وغير مناسب؛ لأن الإطار النظري لا قيمية له بدون دراسات ميدانية تؤكد أهميته وفعاليته. والدراسات السابقة ليست تلغرافات تثبت أن الباحث قد اطلع عليها فقط، بل هي منبئات وأدلة وشواهد على فعالية الجانب النظري ومتغيرات الدراسة. ولذلك فإن عملية ترتيب الدراسات السابقة تاريخيا – سواء من الأحدث للأقدم أو من الأقدم للأحدث- ينبغي ألا تكون الطريقة الوحيدة المتبعة لعرض الدراسات السابقة، بل الأفضل من ذلك – في رأينا- هي أن تتلبس الدراسات المختلفة بالمفاهيم النظرية المقدمة؛ فيكون لكل مبدأ من المباديء وكل مفهوم من المفاهيم وكل بند من بنود الأهمية دراسة تؤكد هذا الجانب وتعززه أو تشكك فيه وتبين القصور فيه. والباحث غير معني بإثبات كفاءة المتغيرات التي اختارها، وإلا فلا داع للتجريب، وعمل الباحث الأساسي هو تحقيق النزاهة في بحث الموضوع بكل جوانبه، إيجابياته وسلبياته، نجاحاته وإخفاقاته.
- الخطوة الثالثة هي البدء في تصميم أداوات الدراسة، وهي الأدوات التي ستستخدم لجمع البيانات الخام للدراسة، سواء كانت هذه البيانات درجات الطلاب – وفيها يستخدم الاختبار-، أو أراءهم- وفيها يستخدم الاستبيان، أو اداءاتهم- وفيها تستخدم بطاقات الملاحظة. وترتيب هذه الخطوة طبيعي بعد تكون التصور النظري الذي يبين آليات عمل المتغير المستقل وتأثيراته المثبته في الدراسات السابقة. لذا يبدأ الباحث بعمل مسودة الاختبار أو الاستبيان او الملاحظة، ثم يراجعها مع مشرفه، ثم يعدل فيها بناء على هذه المناقشة، ثم يقدمها للمحكمين الخبراء لاستطلاع أراءهم، ثم يعدل مرة أخرى، ثم يعمل على تقنين الأدوات من خلال الإحصاء بحساب الصدق والثبات سواء صدق الاتساق الداخلي أو الارتباط بين المفردات أو غير ذلك من خلال تطبيق الأدوات أوليا على عينة مستقلة من عينات المجتمع. ومما يغفل عنه الكثير من الباحثين ضرورة كتابة تقرير عن هذه الدراسة الإستطلاعية، فرغم أنها تمت فقط للتأكد من صدق وثبات الأدوات إلا أنها مهمة لتوثيق ما قام به الباحث بالتفصيل، ومثل هذا التقرير يرفق في ملاحق الرسالة في النهاية كأحد الشواهد على دقة بناء الأدوات. وهذا التقرير يشابه مقالا صغيرا به طرح أولي rationale وتوثيق لخطوات بناء الأداة وطبيعة العينة التي طبق عليها وما حصل في تطبيق الأداة والملاحظات الإضافية، والنتائج المترتبة على التطبيق وأهمها بالطبع التعديل في بنية الأداة لتناسب هدف البحث الأساسي. وهذا التقرير للدراسة الاستطلاعية قد يفيد الباحث كثيرا إذا طُلب منه نشر أحد الأبحاث المستلة من موضوع الرسالة قبل التصريح بالمناقشة – كما تفعل بعض الكليات والجامعات- فيكون التقرير جاهزا للنشر بإعتباره بحث مستقبل الهدف منه التوصل إلى أداة يعتمد عليها.
- في هذه الخطوة يبني الباحث المادة التعليمة التي سيتخدمها إن كان هناك تدخلا تجريبيا، ويخضعها كذلك للتحكيم، ولا ينبغي أن يخضعها كلها، بل يكفي مصفوفة المدى والتتابع بها scope and sequence ونموذجا من الدروس المستخدمة، لتبين الإطار العام للمادة المنتجة.
- ثم تاتي خطوات التنفيذ العملي لتطبيق الدراسة بكل جوانب الاحتياطات المتخذة في عمليات التطبيق، بداية من اختيار العينة المناسبة، ومرورا باستبعاد الفئات التي لا تنطبق عليها شروط التكافؤ بين المجموعتين، والعمل على استبعاد تأثيرات التحيزات المسبقة أو أخطاء التطبيق مثل تأثير بيجماليون أو تأثير هنري جيمس أو غيرها ( وسنكتب فيها مقالا مخصصا لاحقا)، ووصولا إلى تطبيق التجربة بالاختبار القبلي ثم المادة التعليمية ثم الاختبار البعدي.
- ينبغي هنا التأكيد على أن عمليات التقويم لا تقتصر على الاختبار البعدي فقط، لأن عمليات التدخل شهدت تطورا وتغيرا طرأ على الطلاب طوال التجربة فلابد من توثيق هذا التغير من خلال نتائج التطبيقات القصيرة quizzes أو التكليفات العملية assignments أو تحليل منتوجات الطلاب content analysis ليشكل ذلك كله نتيجة متراكبة من التقويم التكويني formative evaluation تضاف إلى التقويم التجميعي summative evaluation المتمثل في الاختبار البعدي.
- ثم تأتي مرحلة المعالجات الإحصائية، ونؤكد فيها على ضرورة أن يفهم الباحث سبب اختيار هذه الأساليب الاحصائية بالذات ومعنى عباراتها، ودلالة أرقامها والخطوات التي تمت للوصول للنتيجة، والأفضل طبعا أن يقوم الباحث بهذه المعالجات الإحصائية بنفسه، فإن لم يستطيع – نتيجة ضعف البناء العلمي في الإحصاء – يمكنه أن يلجأ إلى أحد المتخصصين في الإحصاء التربوي بشرط أن يلازم الخبير ويفهم الخطوات ويعيد تنفيذها ويفهم دلالة النتائج والأرقام، لأنه – الباحث- وحده المنوط به تفسير هذه النتائج والتعليق عليها.
- عملية التفسير والتعليق على النتائج ليست مجرد وصف للموجود بالجداول، لكن ينبغي أن تناقش لم ظهرت النتائج بهذا الشكل وما العوامل التي تمت ملاحظتها أثناء التجريب والتي أدت إلى هذه النتائج، وما الخلفيات الاجتماعية والأكاديمية والاقتصادية والثقافية والسياسية وربما الدينية للمجتمع والتي تفسر ظهور التنائج على هذا النحو. وينبغي أن يتحلي الباحث – ومشرفه- بالشجاعة للاعتراف بالتقصير – إن كان ثمّ- في عمليات التعيين أو التطبيق، خاصة في حالة عدم القدرة على إعادة التطبيق لتلافي الأخطاء.
- وأخيرا تأتي مرحلة التوصيات والمقترحات تتوج هذه الرحلة المضنية من العمل الدؤوب والعيش المتواصل مع موضوع البحث. و هذه المرحلة لابد أن ترتبط بنتائج البحث، فالهدف من البحث التجريبي الكمي هو تعميمية النتائج generalizability ، لذا تكون التوصيات تركز على تعمم النتائج المفصلة. أما البحوث الكيفية والوصفية مثلا فلا ينبغي أن تطالب بتعميم النتائج لأن الهدف منها من البداية هو تحقيق الفهم لحالات معينة أو وصف ظاهرة معينة في مجتمع معين قد لا تنطبق مواصفاته على غيره من المجتمعات البحثة.
وفي كل الأحوال فإن إجراءات الدراسة هي حلم يحلم به الباحث ويعيش معه ويعمل على تحقيقه وتنفيذه على مراحل، يشطب في كل مرة منها أمام خانة البند الذي يمثلها، وينتقل – بكل دافعية للعمل والإنجاز- إلى المرحلة التالية حتى ينهي المشروع كاملا، ثم يكون التقرير – الرسالة- هو حصيلة كل ما حدث بأسلوب علمي راق وتفصيل غير مخل يرصد كل ما حدث وما ترتب عليه.
والله الموفق