لماذا نقاتل من أجل القدس؟
الأسير الفلسطيني حسام زهدي شاهين|سجن نفحة الصحراوي – 2/7//2021
أن تكتب عن القدس بصورة مكثفة، وكلمات محدودة، مسألة كثيفة التعقيد، ومع ذلك سأحاول، نظراً لطبيعة الندوة، وضرورة الكتابة في هكذا مناسبات؛ ساعياً إلى الإجابة على السؤال المركزي، لماذا نقاتل من أجل القدس؟ وما الذي تمثله بالنسبة لنا كفلسطينيين على وجه الخصوص، ناهيك عن عروبتها وإسلاميتها ومسيحيتها في ظل الطبيعة التعددية لتاريخها من ناحية، والتنوع الثقافي لمحتوها الإنساني من ناحية ثانية. بالإضافة إلى العمق الروحي والديني والتاريخي لمدينة القدس التي تناولتها الكثير من الدراسات أود التركيز هنا على جملة من الأبعاد الأخرى التي لا تقل أهمية، ولا تمس في الوقت ذاته كل جوانب حياتنا اليومية.
أولاً: العمق المعنوي
لا زالت القدس تمثل الرصيد المعنوي الذي يحمي الصمود الوطني الفلسطيني، ويعزز من صلابة الإرادة الشعبية، ويلهب العمق القومي، ويحرك التضامن الروحي مع حقوق شعبنا، بدليل أن كل الثورات التي شهدها العصر الحديث في مواجهة الاستعمار الصهيوني الكولونيالي، بدءاً من هبة البراق عام 1929 وحتى هبة الشيخ الجراح هذا العام، كلها مترابطة ارتباطاً جدليا وعضوياً بمدينة القدس. صحيح أن القدس مدينة محتلة جغرافياً، غير أنها حرة الإرادة، وقد أفشل المواطن المقدسي بصموده وتمسكه بعروبة مدينته على مدار 54 عاماً كل محاولات الاحتلال والتهويد وأسرلة المدينة، وأثبت بصلابته عجز كل مؤسسات الاحتلال الأمنية والعسكرية عن احتواء إرادة المقدسي أو تطويعها، لأن سقوط القدس معنوياً يعني نهاية المشروع الوطني الفلسطيني.
لا زالت القدس مدينة حرة بفضل سكانها، وبفضل استجابة الشعب الفلسطيني بالثورة لكل صرخاتها، والتفاف الجماهير العربية حولها لمساندتها وتضميد جراحها وتضامن كل أحرار العالم معها، كما أنها لا زالت تمثل منارة المقاومة الفلسطينية والأممية ضد الاستعمار والعنصرية، وبالتالي منارة الحرية لكل من يريد الاهتداء بها، ففي الوقت الذي يريد فيه كل من يحاول رفع العلم الفلسطيني فوق أسوارها يوجد العديد من العواصم المحتلة في العالم رغم أنها تعيش تحت ظل علمها الوطني!! لذلك استشرس الاحتلال في الآونة الأخيرة لحسم المعركة من هذه الناحية، إلا أنه صدم بحجم الوعي الفلسطيني والاستعداد للمواجهة والتضحية، خصوصاً في أوساط الأجيال الشابة وتحديداً في القدس والداخل المحتل، فالإرادة كما السيف لا تصقل إلا بالنار، وكلما ازدادت شراسة الاحتلال وضغوطاته ازدادت الإرادة المقدسية صلابة وعنفواناً، وانعكس تلقائياً على الإرادة الوطنية لجموع الشعب الفلسطيني في كل مكان.
ثانياً: العمق الاقتصادي
فلسطين بلد فقير نسبياً من حيث الموارد الطبيعية، والاقتصاد القومي الفلسطيني سيعتمد مستقبلاً على مصدرين أساسيين هما: الطاقات البشرية، والسياحية الدينية والداخلية التي تمثل القدس جوهرها وقلبها الحي، وبالتالي لا يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن ينمو أو يزدهر بغير القدس؛ لأنها بمثابة العمود الفقري لهذا الاقتصاد، ناهيك عن أنه لا يمكن للدولة الفلسطينية مستقبلاً أن تكمل إرادتها السياسية بالمساعدات الخارجية والدول المانحة، لذلك يحمل القتال من أجل القدس في طياته وجهاً اقتصادياً لا يقل أهمية عن الأوجه الأخرى.
ثالثاً: العمق الاجتماعي والثقافي والتجارة
هذه الأوجه مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً وشائجياً، حيث أن القدس تعد المركز التجاري الأهم لدى غالبية الفلسطينيين خصوصا بلدتها القديمة، التي كانت تشهد حراكاً تجارياً نشيطاً فلا يحلو لأبناء شعبنا إلا اقتناء أدواتهم وملابسهم وجزء مهم من مأكولاتهم منها، إلى جانب أنها كانت تستوعب في أسواقها كل منتجات الريف الفلسطيني في عملية تجارية متبادلة قلّ نظيرها في أماكن أخرى.
وكانت القدس ولا زالت تمثل لشعبنا القبلة الثقافية الأهم من حيث المراكز الثقافية ودور السينما والمهرجانات الموسمية والسنوية المختلفة والمتنوعة، فأهم المطبوعات ودور النشر والصحف الفلسطينية كان مركزها القدس، وعملية التجفيف الحالية التي يمارسها الاحتلال ضد هذه المؤسسات لم تمنع المقدسيين بالإنابة عن شعبهم من ابتكار وسائل جديدة لإعادة الروح الثقافية للمقدس، ففي شهر رمضان المبارك يبرز وجهها الإسلامي بكل تجلياته، وفي أعياد الميلاد المجيدة تنبض بقلب المسيح حباً وسلاماً، إلى جانب أنهم تمكنوا من تحويل شوارعها وأزقتها إلى مسارح ومنابر علم وثقافة.
جرّاء هذه التفاعلات التي كانت تشهدها مدينة القدس تحولت إلى مسرح لأهم أشكال التفاعل الاجتماعي بين الكل الفلسطيني متعدد الخلفيات الاجتماعية والثقافية والدينية، فلا يكاد تخلو بقعة جغرافية واحدة على امتداد فلسطين التاريخية إلا ويوجد بينها وبين القدس علاقة نسب وقرابة، فكيف لا ينتفض الجسد الفلسطيني كله من أجل القدس؟
رابعاً: العمق الوحدوي
رغم كل الخلافات والتناقضات الداخلية الفلسطينية لا زالت القدس تمثل إجماعاً وطنياً لا يختلف عليه اثنان، مما يعني أن قضية المقدس قادرة على جمع الكل الفلسطيني وقادرة على استعادة أواصر الوحدة الوطنية التي فشلت في استعادتها القوى الوطنية والإسلامية المتعددة، فالقدس عنوان لهذه الوحدة وملهم لها.
هذه التفاصيل الصغيرة وغيرها مما لا يتسع ذكره في هذا السياق تمثل تراكماً كمياً ونوعياً يدركه الشعب الفلسطيني بروحه التواقة لمدينته الحبيبة، فمتلازمة حب القدس تستوجب زيارتها حتى يستطيع أن يفهم كل من لا يفهم لماذا نقاتل من أجل القدس كما لو كنا نقاتل من أجل الجنة حتى لو لم نكن متدينين.