شجرة كرز في الذاكرة.. حماقات مسائية
ياسمين كنعان | فلسطين
لماذا تمنحني حضورك مرة، و يغرقني غيابك مرات؟!ولماذا كلما عدت نظرت في عينيك ونسيت..وضحكت، ومتى أشفى منك ومن تعلقي بك، ومتى أتوقف عن تتبع رائحتك وظلك؟!
متى أتوقف عن التحديق بمعصمك وساعة يدك المقلوبة، وأي حنين سكن قلبي، وكيف أتحرر من هذا الوقت الذي يحولني إلى ذرات رمل أو غيمة انتظار؟!
تأملت هذا المساء ملامحك الجديدة وقد تركت الغربة بصماتها واضحة على جبينك، قرأت سطورها عن جبينك خطا خطا. لا أعرف إن كنت انتبهت أم، لا ؛ ولكي أمحو أثر الدهشة والحزن من عيني؛ قلت لك” أو تدري الحق كل الحق على جدي!”
ضحكت؛ لأنك عرفت أني أريد أن أدخلك في حكاية..ربما في حماقة جديدة! فأنت صرت تعرف أن هذا السرد المتواصل صار سبيلي الوحيد لتجميع خطوط الحكاية بين أصابعي، وأنه السبيل الوحيد لبعث الروح في جسد أنهكه غيابك، وأنه السبيل الوحيد للبقاء على قيد الانتظار والحياة!
وإلا ماذا كنت سأفعل بكل هذه السنوات الطويلة من اليباس، وكيف أتحمل كل ما هو آت، إن كان ثمة ما هو آت!
لن أدخل في دوامة الكآبة هذا المساء، سأحاول جاهدة أن أحرر نفسي منها، سأحاول أن أحكي لك قصة من الذاكرة، وما هم إن كانت واقعية أو من نسج خيال؟!
طردت غيمة الكآبة، ورسمت ابتسامة خفيفة على شفتي وأنا أتأمل ملامحك مجددا..سألتني ” ولم الحق على جدك لا على جدتك هذه المرة؟!”
قلت لك وأنا أرسم بإصبعي بعض الخطوط الوهمية في راحة يدك..ولا أعرف ماذا شكلت من حروف وكلمات عليها…” الحق كل الحق على جدي فلو لم يكن من الشعراء الرومانسيين لما كنت أنا حفيدته مصابة بكل هذا القدر من الهبل والحماقة! جدي كان آخر الشعراء في العائلة الذي لم يسمع شعره أحد، ربما أنا فقط!”
أحاول أن أتذكر بعض ما سمعته منه، لكنني أخفق، وكل ما استطيعه هو استرجاع صورته وصوته ..كأن أتذكر ثورته وغضبه على جدتي حين قامت بقطع شجرة الكرز الحمراء…أعرف أن ما أقوله لن يروق للعائلة المبجلة، ومن قال إني أهتم؟!
عندما رجع جدي على ظهر حماره وتراكضنا وتحلقنا حوله باكين، و أخبرناه الحكاية، نزل عن حماره وبدأ يشتم دون وعي…هل جمعت يومها جدتي صرة ثيابها وذهبت إلى بيت أهلها غاضبة ؟! لم أعد أتذكر التفاصيل، وربما لا أريد أن أتذكر!
لماذا أقص عليك هذه الحكاية التي قد لا تعني لك شيئا؟!
لأنني أحيانا أقول لنفسي التي أتعبها غيابك،” لم لا أكون مثل جدتي.. لم لا أقطع الشجرة، لم لا أتوقف عن تعليق آمالي على أغصان متكسرة..لم لا أكف عن انتظار موسم الكرز …وهل يأتي ؟!
الحق كل الحق على جدي الذي ورثني رومنسيته والتي لم تعد مجدية ولا مقبولة في زمن مثل هذا الزمن! ولم علي أن أكون مسكونة بهذا الحب الكبير الذي لم يكن نصيبي منه إلا الغياب والانتظار، وانتظار أي شيء ..أنتظار الذي لن يأتي أبدا !
والآن وأنا أكتب إليك، يتردد صوت جدي في رأسي بنبرة حزن وأسى عميق..
“ليه قطعت الشجرة بالمنشآر يا بنت الأوادم ؟”
يجيبه صوت جدتي ” القرود الصغار طالعين نازلين على الحاكورة وعلى الكرزة، عزا وأنا بطلت أتحمل أقد ثوبي وأطلع منه؟! ”
” خليهم يا حرمة أنا زرعت الكرزة لمين ؟!” ..
أطرد الأصوت من رأسي، أحاول أن أنسى..ذهب جدي، وذهبت جدتي، وذهبت شجرة الكرز ..ماتت ولم يبق منها إلا الذكريات. واليوم كلما مررت ببسطة كرز تذكرت الحكاية، و لعنتك، و لعنت مواسم غيابك ولعنت موسم الكرز!