قراءة في رواية السيرة ذاتية ” ثلاث وستون ” للروائي أحمد الجنديل

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية، نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة, هي السيرة, أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية, والذكريات, والمذكرات, واليوميات, والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه – وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية – معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية [1], وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا [2], إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر, ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث [3], لذلك صار من المألوف  أن يكتب مصطلح الذكريات أو المذكرات أو اليوميات على نصوص السيرة الذاتية التي تصور أحاسيس الشخصية وانفعالاتها في أثناء عرضها لتاريخها الماضي , ونحن نتفق مع  الصديق عبد الكريم السعيدي فيما ذهب إليه. 


إن ما يميز رواية ثلاث وستون للروائي الكبير احمد الجنديل أنها رواية سيرة ذاتية بامتياز  كتبها , وعاش أحداثها, وتفاصليها من بداية الرواية ,يروي لنا سيرة الأستاذ وليد عبد العظيم في تقنيتين سرديتين جديدتين, فهو راوي غيري  لسيرة عبد العظيم, وراوي لسيرته الشخصية , قدم  أغلى ما يملك عمره, وشبابه في تربية وتعليم الأجيال, وينتظر اهتمام الدولة فيه, فبدأت معاناته  تتجسد في كشف المستور للموظفين والمسؤولين الذين يتعاطون الرشوة  بقوله:- لاشيء , معاملتك تنجز وأنت في البيت , وستجد ما يريحك ويسعدك , لا شيء سوى مبلغ من المال تدفعه إلى السيد المدير والست مديحة, وينتهي الأمر , أما أنا فما أقوم به أكراما لوجه الله  , انفرجت شفتاي عندما سمعت جملته الأخيرة , وأطرقت إلى الأرض مستسلما: – ما قيمة المبلغ المراد دفعه؟ وزع نظراته على المكان المحيط بنا, واقترب مني هامسا: – مليون دينار فقط , تشتري به راحتك, ويغنيك عن متاعب السفر والمراجعات.
إن السيرة الذاتية ما هي إلا نمط ,وشكل سردي غالبا ما تكتب نثرا , فهي تعتمد على ذاكرة راويها باستعادة ماضيه, ومحاولة أحياء بعض جوانبه التي يرى فيها الروائي احمد الجنديل خصوصية أو تميزا , إلا أن هذا لايعني أن تكون تلك النصوص وثيقة تاريخية خالصة عن كاتبها , لا يتخللها الخيال , فربما تخيل الروائي أحداثا لا تخصه ولكنه سمع بها من أناس لهم صلة بها , وحديثه عن نفسه ليس بالضرورة هو سيرته الذاتية كما كان يعتقد الواقعيون, فشخصيات السرد هي كائنات من ورق كما يقول بارت, أو هي تقنيات لغوية كما يقول تودوروف [4], فنراه يقول: بقي حنش يحدث المدير عن بطولاتي في مقارعة الظلم والطغيان, وحديث الست مديحة عن بلد احترام القانون يعيد حضوره في راسي , ابتسمت فقابلني المدير بابتسامة أحسن منها , كنت قد ابتسمت عن بلد الكذب الممتد عبر مئات السنين , وكلما رحل جيل أهدى كذبه للجيل الذي يليه, ومع مرور الزمن أصبحنا نتفاخر بهذا الكذب المدمر, عادت الست مديحة إلينا من جديد , وهي تخبر مديرها بان اضبارتي جاهزة لإرسالها إلى دار التقاعد , تنفست الصعداء لان الكلب سوف لا يمر على دكان القصاب [5]0
وإذا أردنا البحث عن دلالة تذكر الماضي هنا , قلنا أن الروائي احمد الجنديل حينما يتذكر الماضي ,ويحن لأيامه, أنما يحن إليه لأنه كان يدرك دلالة الأشياء , ويعلم ما يدول حوله , وإلا فإن الماضي,والحاضر لديه سيان كلاهما مر, وان الأمل معقود بالمستقبل, وهو ما يمكن أن ينطبق عليه المصطلح الذي اقترحه احد الباحثين ونقصد به ذاكرة انتقاد الماضي ,والحاضر بعين المستقبل, فنراه يقول: غادرت المدرسة حاملا باقة صغيرة من الزهور قدمت لي تثمينا لجهودي في خدمة المسيرة التعليمية, وقد لفت من الأسفل بورقة ملونة كتب عليها : هدية أدارة مدرسة النسور تثيمنا لجهود الأستاذ وليد عبد العظيم, تمددت على سريري مغريا نفسي براحة مؤقتة , بعدها أقوم بالمراجعات للحصول على مكافأة سخية مع اقتناء بطاقة المتقاعدين, لم أفكر بالبحث عن وظيفة جديدة في مدرسة أهلية بعد التقاعد [6].
استطاع الروائي سرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ,وشاعرية  دموية حزينة جسدت معاناة السجين العراقي المظلوم في زنزانته, وأعطنا صورا فوتوغرافية بأسلوبه المتميز وكتابته السردية الرائعة, وفي رواية ثلاث وستون  نجد أنفسنا أمام مدة زمنية قصيرة, وحدث مختزل جدا إلى أقصى حد, والذي يكون الناس و السلطة، غير أن هذه المدة  الزمنية القصيرة تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص و الأحداث الجزئية المكونة للرواية ككـل، بحيـث يبـدو لنـا البناء الزمني للرواية السيرة الذاتية عنصرا معقدا ,وشريانا حقيقيا من شرايينها [7], ويسرد لنا احمد الجنديل بقوله كنت مشدودا إلى ذاكرتي وهي تسرد لي ما حدث قبل أربعة عقود, وعندما انتبهت إلى نفسي , أدركت أن الماضي يطاردني , وان لعنة توقيفي كانت السبب في ما حصل لي اليوم , فلولاها ما كانت الحاجة إلى كتاب تأييد , ولا السفر في زمن الكورونا, ولا هذا العذاب الذي أنا فيه, من يعلم؟ ربما الضابط الذي فجر جروحي يمارس اليوم دوره بأسلوب جديد, أو ربما يكون لاجئا سياسيا يتمتع بمباهج الحياة في العواصم الراقية [8].
والسيرة الذاتية التي تولي اهتماما خاصا بما يدور في داخل نفس كاتبها أو راويها , من هنا قال اغلب النقاد بالشبه الكبير بين السيرة الذاتية والرواية , ولاسيما إذا كان راوي السرد هو ضمير المتكلم [9], مارس الروائي  النقد اللاذع , وسخرية الأقدار التي عصفت به من بداية الرواية حتى نهايتها, رواية ثلاث وستون سيرة ,ومسيرة للجنديل تناول ثالوث المعاناة في التقاعد, والسجن, والمواطنة الشريفة. فنراه يقول: أرح راسك من هموم العمر يا وليد عبد العظيم, ارفع عن ظهرك حمل السنين, ثلاث وستون سنة وأنت تقفز بين المحطات, وتبحث في دهاليز الاحتمالات , اركل كل الاحتمالات بكعب حذائك, ودع  الأمور تسر وفق مشيئتها, أنت لا تستطيع دحر كل هذا الظلام بأشعار المتنبي والبحتري وغيرهما,ولا تعيد للإنسان هيبته التي نخرتها الديدان بعلم البديع والمعاني, اترك هذه النرجسية المبتلى بها , فالعالم يسير نحو الهاوية فلا تتعب نفسك يا وليد عبد العظيم [10].
إن اعتماد الروائي على أحداث رواية السيرة الذاتية باعتبار أن الفاعل من ملفوظ رواية السيرة الذاتية يعيش حالة الصدمة, والألم, ويلجأ إلى استحضار الماضي عبر الأحلام, والذكريات لتفتيت هذا الألم ,و إحلال محله اللذة، عندما يكتشف التحدي عن طريق إثبات وجوده باللجوء إلى الماضي ,و التصور المستقبلي، وما يطبعه من رتابة يولدها تسلسل الأحداث السردية تسلسلا خطيا فنراه يقول:- عند سقوط النظام, خرجت الناس إلى الشوارع مستبشرة فرحة, امتلأت المدينة بالهتافات ضد الطاغية وأعوانه, لحرائق انتشرت في بعض الأماكن, وحالات النهب طالت جميع الدوائر الحكومية والمقرات الحزبية التابعة للنظام السابق, البعض خلع جلده واستبدله بجلد آخر وراح يعرض مظلوميته على كل من يلاقيه, والبعض الآخر هرب من بيته والتجأ إلى أماكن لا يعرفها احد, وظهرت أسماء سرعان ما التف الناس حولها , واختفت أسماء كانت تحتل واجهة الإحداث[11].
الروائي الجنديل بقدرته النقدية, وبريشته الفنية ,رسم لنا لوحة فنية جسدت حجم السعادة في الخلاص من الظلم الاضطهاد, وحجم الدمار الذي حل بالبلد من النهب والسلب ,وحرق الدوائر الحكومية ,فهي صورة متناقضة ,تعطي مفارقة لوجهين الأول السعيد في التخلص من الحكم الدموي,  والثاني الحزين لتدمير البلد من قبل بعض الجهات التي تدعي الإسلام, والدين , وأجمل ما في الرواية رحيل الأستاذ عبد العظيم عن الحياة ,ولم يحصل على التقاعد, وهي صورة واقعية لمصير مئات الأساتذة فنراه يروي الراوي سيرته الذاتية عن طريق لسان ولده رياض بقوله: اخبرني الطبيب بان سبب الوفاة كان عجزا في القلب, كنت اعرف ذلك قبل أن يخبرني الطبيب, القلب الأخضر اليانع بينابيع العطاء لا يحتمل كل هذا العذاب, كان منذ طفولته يسعى إلى العفة, والنزاهة وبعدها وجد نفسه غارقا في بحر من الانتهاكات والمعاملة الذليلة [12].

المراجع:
[1] شعرية السرد في شعر احمد مطر : د. عبد الكريم السعيدي : 39 0

[2] عندما تتكلم الذات : 9 .

[3]تبمظهرات التشكل السير ذاتي : 135 .

[4] ينظر شعرية السرد في شعر احمد مطر : 41 .

[5] رواية ثلا وستون : 146 .

[6] رواية ثلاث وستون : احمد الجنديل :13 .

[7] دراسات في القصة العربية الحديثة :33 .

[8] رواية ثلاث وستون : 64 .

[9] السيرة الذاتية في الأدب العربي : 21 .

[10] م0ن : 77 .

[11] رواية ثلاث وستون : 98 .

[12] م.ن : 155 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى