امبراطور الجاز
يكتبها: محمد فيض خالد
تكفي جلبة عربته النّحَاسية العَتيقة، وقرع مفتاحه الحديدي المتواصل فوقَ حافتها، وصوته الخَشن المُنطَلق يَذوبُ في جوفِ الفَضاءِ: جاز .. جاز
لأن يجتمع القوم من حَولهِ، نَاهِيك عن صوتِ بغله الأحمر الهزيل، الذي يتأتّى مُتقطعا، وكأنّه ينبّه أولئك الذين تحلّقوا من حولِ مواقدِ النّار في صباحِ الشتاء القارص ،تشاهد موكبه حين تسبقه رائحة الجاز النَفاذة، يقترب الهوينة خاشعَ الطّرف مُستسلما، وابتسامة ثعلب عجوز تُزايل سُمرة وجهه؛ تبتغي الوسيلة إلى الزِّرقِ الحلال، يَتحَامل على نفسهِ المُتهالكة وقد أوقفَ العرَبةَ، وشَرعَ في استقبالِ زبائنه، عرفناهُ مُنذ الطفولة الباكرة، ترتقبهُ عيون الناس في تلهفٍ، أكبرنا همته وعزمه ونحن نرى شيخا طاعِنا، يدفع في جهدٍ قدميهِ المتعبتين، تتلألأ على فمهِ ابتسامةٍ وضاحة، يجيب الكبير والصغير في هدوءٍ ورزانةٍ، قال “عيد” الحلاق: إنّ “سلامة” بائع الجاز فقد ساقه مُنذ كان صبيا، يَتتبّع قطار القصب، هكذا يقضي نهاره مُتَنقلا بينَ الأزقةِ، حتى يختفي حاجب الشّمس فوقَ شواشي أشجار الكافور، وهي تنحدر نحو الغروب، يرفع عقيرته مُناديا بمثلِ ما افتتَحَ بهِ يومه، وإني لأعجَب لصاحبنا حين يَتلمس وجه الحيلة بعرجتهِ التي بَالَغ في اظهارها، وبغله الذي حفظ طريقه بين البيوتِ، لكنه سريعا يبرز من مكمنهِ، فيسلخ عنه وداعته سَلخا يسيرا، فوقَ تراب الجِسرِ عائدا إلى بلدتهِ، حينها ترى إنسانا آخر، فلا تسمع إلّا صرخاته المُوحِشَة، وزئيره الغاضِبُ، وطرقعة كرباجه يدمي الهواء، يَشقّ سكون الطّريق الذي تكدّس ظلامه بعضه فوقَ بعضٍ، يستحث بغله المسكين أن يواصل سيره بهمةٍ ونشاط ، ينهر أولئك الذين تعلّقوا بمؤخرةِ العَربة ، يُلقي بخبيئةِ صدرهِ دون اكتراثٍ توبيخا وتقريعا، ما إن تقع عينك على جلبابهِ الكَالِح الذي سلبت الشّمس لونه، وخليط رائحته النَّفاذ الذي امتزجَ فيهِ العَرَق بالجَارِ ، حتى تأخذكَ الشفقة بهذا البائس المنكود، الذي تقاذفته أسباب التَشريد عُمرا طويلا يدور مع دولابِ العيش، اتخذ خلالها بغله الفاني سميرا، وعربته مأوى وملاذا، يُحدِّق ” فكري” حلاق الحمير حاقدا، ونزوة تضطربُ في قلبهِ، يتأجّج الغضب في رأسهِ، قائلا: إنّ ثروة هذا القميء، تُكال بمكاييلٍ ، ومع هذا يتكالب على الدُّنيا تكالب الثعلب العجوز.
ومع ما أوتي من مغانم الثروة، يتخايل اللّؤم ُ في عينيهِ ، يتراءى شبح الفقر أمامه يتهدّده أينما سَارَ، كأنّما أناخَ عليهِ الشّقاء بكلكلهِ دونَ سواه، يحيا على شظفِ العيشِ مُقتِرا، ينتظر من يلقي إليهِ بالفتاتِ، ومن خلفهِ زوجة تعيسة، رضيت من حياتها ببخلهِ دون شكايةٍ، وتركة والدها التي آلت إليهِ، اجتمعت فيّ حجرهِ لتضاعف من بخلهِ وشرههِ، تظلّ في دعاءٍ وعبرات محتبسة، كُلّما ارعشَ ظلام الليل أن يَفكَّ الله أسرها يوما ، فتجد خَلاصها من هذا الجَحيم ، يوما ما كانت أبواب السّماء رحيمة بهذه المأزومة، فبينما عائد في إحدى الأماسي، والليل يترنّحُ في صمتٍ ثقيل، مُستغرِقا في تفكيرهِ، وإذّ بقدمِ بغلهِ تزل، فتتهاوى العربة في المصرف، على عجلٍ لفظَ البغل آخر أنفاسه، وكأنّه يُساق إلى حتفهِ هانئا مطمئنا، راضيا بالموتِ بَديلا عن مرافقةِ صاحبه، لم يتحمل صاحبنا خسارته، انتكست حالته، بعد إذ طَاشَ صوابه، هَامَ في الطُّرقاتِ تغلي مراجل في عقلهِ حسرة وألمَا، حتى وجدوه مُنكَفئا تحتَ جدارٍ.