قراءة نقدية في قصة : ” عرشي الصقيل ” للفلسطيني ” عمر حمش “

جهاد جوهر |أديب وناقد

التناص الديني في قصة (عرشي الصقيل) هو نسيج روحاني متخفي بذكاء وإبداع جميلين، إذ يبدأ الكاتب الأستاذ (عمر حمش) نصه بالعنوان التالي /عرشي الصقيل/ ، فكأنما – وكما قال أستاذنا الطوخي في قراءته النقدية الراقية- استعار الراوي صفات الإله، ومنذ البداية في عتبة النص.. إضافة إلى تقسيمه للنص إلى ستة مقاطع؛ تبدأ بكلمته الاستهلالية /الليلة../، ظرف الزمان المكرر ست مرات، ليوافق عدد الأيام الستة التي خلق الله بها العالم، ثم استوى على العرش..

(الليلةُ تناسخ القلمُ دلاء) في البداية خلق الله القلم، ومن صفاته النسخ وهي الكتابة على اللوح المحفوظ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة.. والدلاء هي رمز الماء، وكان عرشه على الماء.. وجعلنا من الماء كل شيء حي.

(نثرتُ على الرملِ الحروف … فأنبتُ زهورا، وعصافير) يبين الفعل الماضي بضمير المتكلم عن تمكن الفاعل بإيجاد الأشياء من العدم، وهنا تحول الكاتب إلى تكوين الرمل – الكثيب أو الأرض – والحروف التي هي مجريات القلم والعلم والأشياء بأسمائها .. وقد تكلم محيي الدين بن عربي عن مراتب الكثيب الأبيض، وعن مراتب الحروف.. فيأتي تشبيه الراوي بالكاتب الذي يبدع في صنع نصه، فينبت على صفحاته البيض حروفا تنبعث منها حياة حاضرة ليست كأية حياة.. كأنها جنة بالزهور والعصافير التي تحلق إلى هامة الكاتب – عقله- المليء بالأفكار الجميلة والخيال البديع، والسلام والرحمة.. (كانت العصافيرُ تأتي هامتي، وتروح) .. (وكانتِ البتلاتُ ترمقني بغموض) والبتلة هي ورقة الزهرة.. فتم للكاتب خالق حياة النص إيجاد النباتات والحيوانات إضافة إلى الجمادات، أي كل مكونات الحياة…

(الليلةُ … كنتُ ساحرَا في دنيا يباب .. خطوتُ بدلائي .. وأنبتُ نبتي) تم خلق الدنيا ولكنها خالية من البطل – الإنسان العاقل- ليرى سحر الخالق في بديع ما خلق.. ثم تكاملت خطوات الإيجاد بالماء والإنبات فلكل مخلوق اصل كبذرة تنبت وتنمو..

(صحتُ بفضول .. من أين لك كل هذا الحضور) الصيحة للإعجاب والكبرياء لتناسق وإحسان الخلق للأشياء.. (ومن منح الفقيرَ حقَّ السقايةِ لأرضٍ موات) تساؤل

عن حق الخالق المودع عند المخلوق في معرفته والإشارة إليه بعين العقل والقلب…

ثم يأتي الجواب منه عن الوحدانية دون شريك أو زوجة أو ولد (الليلةُ .. كنتُ المغامرَ، ولم يكنْ غيري .. لم تكنْ أنثى تمارسُ معي الهمسَ)

(فنثرتُ حرفا .. قلتُ: كوني. فكانتْ) يتم خلق الإنسان الذكر والأنثى.. وركز الكاتب في خطابه (الممزوج بين الخالق والمخلوق) على الأنوثة لأنها سبب الولادة واستمرار الحياة.. (جاءتْ مع شهقةٍ كولادةِ سيفٍ .. ووقفتْ ترنو هناك) حيث أن السيف المقصود هنا هو ضلع الرجل، وهو مكمن قريب من النفس – الشهقة- وهي أشبه بالولادة الأولى للرجل والأخيرة… وتم الانفصال الجسدي… آدم وحواء لم يكن غيرهم من البشر (لم يكنْ سوانا مع عصافيرَ البوحِ).. والوحي يتمثل بعصافير البوح… ثم امتدت ذريتهما (وزهرٍ أتسع مداه .. قلت: هذه مملكتك).. وحمل الرجل مهمة الرسالة والوحي والنبوة لتعريف الخلق منه بالجنة الأولى وتذكيرهم بها… (وقلت: هذا عرشُ بوحِي الصقيل .. أبوحُ، وتهمسين).. فهي تساعده في بوحه بالهمس إلى ذريته بتربيتهم على ما يريده.. (أبوحُ، وترقصين .. وفعلنا … وبحتُ، وبحتُ .. حتى كان مطرٌ).. تتوالى رسل الوحي وتضعف ذاكرة الزهور والعصافير (وجاءت ريحٌ شفيفةٌ بلا صقيع).. ما كان الشر هو معنى الحياة التي تم إيجادها.. (الليلةُ … لم أنثر حرفا للرصاص .. لم أخلقُ نارا .. ولم يكنْ ثمةُ ذئاب تمارسُ قربنا النُواح).. وما كان البوح عن خلجات النفس وإرادة الخالق ليكون صراع للبقاء.. (الليلةُ .. كنتُ فارسَ النثرِ .. نثرنا .. ونثرنا …. وكانتْ تصاحبني، مع ضحكاتٍ تشبهُ حدَّ الزغاريد).. وتستمر الحياة هكذا أفراح وأتراح.. (كانت تقولُ: ما أجمل فنَّ البوح …. وتظلُّ تضحكُ).. ثم تكون العودة إلى الخالق الواحد القهار .. (الليلةُ .. لم يكن بصحبتي بشرٌ، ولم يكن شيطانٌ، فقط كان ثمةُ ملاكٌ، يضحكُ تحتَ عصافير صنعتُها بحرفي).. في جنة الخلد (وبتلاتٌ استجابتْ؛ فتطاولتْ في الضحكِ .. وتمايلتْ للريحِ)…

نستطيع القول بأن النص بلغته الشاعرية هو خلاصة قصة حياة، منذ بدء الخليقة وحتى الخلود في جنات الخلد، وتبادل أو امتزاج الأدوار بين الخالق والإنسان تم بحرفية عالية، وكان الخليط بينهما هو الكاتب صانع النص(الحياة/ أو القصة)..

***

نص القصة عرشي الصَّقيل”

الليلةُ تناسخ القلمُ دلاء .. نثرتُ على الرملِ الحروف … فأنبتُ زهورا، وعصافير .. كانت العصافيرُ تاتي هامتي، وتروح .. وكانتِ البتلاتُ ترمقني بغموض ..

الليلةُ … كنتُ ساحرَا في دنيا يباب .. خطوتُ بدلائي .. وأنبتُ نبتي .. صحتُ بفضول .. من أين لك كل هذا الحضور .. ومن منح الفقيرَ حقَّ السقايةِ لأرضٍ موات ..

الليلةُ .. كنتُ المغامرَ، ولم يكنْ غيري .. لم تكنْ أنثى تمارسُ معي الهمسَ .. فنثرتُ حرفا .. قلتُ: كوني. فكانتْ .. جاءتْ مع شهقةٍ كولادةِ سيفٍ .. ووقفتْ ترنو هناك .. لم يكنْ سوانا مع عصافيرَ البوحِ .. وزهرٍ أتسع مداه .. قلت: هذه مملكتك .. وقلت: هذا عرشُ بوحِي الصقيل .. أبوحُ، وتهمسين .. أبوحُ، وترقصين .. وفعلنا … وبحتُ، وبحتُ .. حتى كان مطرٌ ، وجاءت ريحٌ شفيفةٌ بلا صقيع ..

الليلةُ … لم أنثر حرفا للرصاص .. لم أخلقُ نارا .. ولم يكنْ ثمةُ ذئاب تمارسُ قربنا النُواح ..

الليلةُ .. كنتُ فارسَ النثرِ .. نثرنا .. ونثرنا …. وكانتْ تصاحبني، مع ضحكاتٍ تشبهُ حدَّ الزغاريد … كانت تقولُ: ما أجمل فنَّ البوح …. وتظلُّ تضحكُ …

الليلةُ .. لم يكن بصحبتي بشرٌ، ولم يكن شيطانٌ، فقط كان ثمةُ ملاكٌ ،يضحكُ تحتَ عصافير صنعتُها بحرفي .. وبتلاتٌ استجابتْ؛ فتطاولتْ في الضحكِ .. وتمايلتْ للريحِ …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى