الفلسفة الإسلامية عبر القرون للكاتب الهندي أ. ك. عبد المجيد

فيلابوراتو عبد الكبير | الهند

الدراسات في الفلسفة الإسلامية نادرة جدا باللغة المالايالامية. أتذكر كتاباً بحجم صغير يتناول مدرسة فكر المعتزلة كتبه الأديب والناقد الراحل “فاكام عبد القادر” في خمسينات القرن الماضي، ويضاف إليه كتاب بعنوان “آفاق الفلسفات العالمية” الذي كتبه المُفكر الماركسي “راهول سانسكرتيان” الراحل والذي قام بنقله “كاماران نايار” من اللغة الهندية إلى اللغة المالايالامية في ستينيات القرن الماضي. دراسة “راهول سانسكراتيان” دراسة جادة وتحليل جيد عن الفلسفات العالمية من الفلسفة اليونانية والهندية القديمة إلى الفلسفة الغربية الحديثة، من فلسفة ماركس و”كانط” و”شوبان هوفر” و”نيتشيه” وغيرهم. من ضمن تحليل هذه الفلسفات يتناول أيضًا الفلسفة الإسلامية والتيارات الفلسفية التي تنتمي إلى ابن عربي وابن سينا والرازي حتى إخوان الصفاء. أما كتاب عبد المجيد الذي نحن بصدد عرضه فميزته هي أنه يركز على الفلسفة الإسلامية فقط بشتى وجوهها المتنوعة. ومن هذه الناحية فلا غرو أن  يوصف هذا الكتاب كباكورة عمل جاد وجامع في دراسة الفلسفة الإسلامية باللغة المالايالامية. يحاول الكاتب من خلالها أن يُلقي الضوء على دور الفلسفة الإسلامية في تشكيل الحضارة الإسلامية وتطوير العلوم المادية ونشر الثقافة الإسلامية في أرجاء العالم. يتناول الكتاب مصادر الفلسفة الإسلامية التي استمدت منها غذاءها الفكري ويُميّز العناصر الإسلامية وغير الإسلامية التي اختلطت في طياتها ونفوذ عمالقة الفلاسفة المسلمين العميق في تشكيل الحضارة العالمية، كما يحتوي مختصر سيرة هؤلاء الجهابذة وإنجازاتهم القيمة في حقول المعارف.

لا شك في أن الفلسفة من تراث المسلمين العظيم، ولكن هل يحق أن توصف فلسفة إسلامية؟ وقد ُطرِح هذا السؤال قديمًا وحديثاً. قديمًا مثل الإمام الغزالي وابن تيمية والشوكاني، وحديثاً مثل سيد قطب ومن تابعه من التيار الإسلامي الحركي والكتاب السلفيين. واختلاط العناصر غير الإسلامية بأفكار الفلاسفة والمتكلمين المسلمين حقيقة لا تُنفى. ولهذا يتردد بعض العلماء في تلبيسها بعباءة الإسلام، وقد تجرأ البعض بأن يستهزأوا من فخر الدين الرازي بقول إن “فلسفة الرازي كلها سفهة”، وفي تفسير القرآن المجيد “فتح القدير” للإمام الشوكاني من أصحاب المذهب الزيدي نراه ينتقد الرازي بشديد اللهجة هكذا: “ما هذه بأول زلة من زلاتك وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك” (فتح القدير ج: 5 ص: 303).اتهمه صاحب كشف الظنون أنه ملأ تفسيره بأقوال الحكماء الفلاسفة وخرج من شيء إلى شيء حتى يتعجب فيه القارئ. وقيل أيضًا إن الإمام الرازي نفسه قد تراجع عن منهجه الفلسفي في أواخر أيامه وعبّر عن ندمه على خوضه في علم الكلام في قصيدة نسبها له ابن تيمية في منهاج السنة يقول فيها “ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا* سوى أن جمعنا فيه وقالوا”. ينقل العلامة الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء أن الرازي في أواخر عمره قد قال “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن”. ويعلق عليه الذهبي بأنَّه توفي على طريقة حميدة كأن نتاجه العلمي طوال حياته كان على طريقة غير حميدة! ومن الذين تنسب إليهم حكايات التراجع والندم الإمام الجويني حيث رُوٍي عنه أنه قال وهو على سرير موته “ها أنا ذا أموت على عقيدة أمي”.

أما سيد قطب فقد خالف في كتابه “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” محاولة صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، امتدت هذه المخالفة حتى إلى الشاعر الفيلسوف الهندي المحبوب لدى كثير من الإسلاميين في القارة الهندية الدكتور محمد إقبال الذي استعار على حد قوله القوالب الفلسفية المعروفة عند “هيجل” من العقلانيين المثاليين وعند “أوجست كونت” من ” الوضعيين الحسّيين”. العقيدة الإسلامية في رأي سيد قطب تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها. ولا تخاطب “الفكر” وحده في الكائن البشري، أما الفلسفة فلها أسلوب  آخر، إذ تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة. ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أن تنحصر في منطوق العبارة – فضلا على أن جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه “الفكر” البشري – فإن الفلسفة في قول سيد قطب تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة.

نحن لا نشك في إخلاص تحليل هؤلاء العلماء، ونعترف أن لهذه الآراء وزنها إلى حد ما. إلا أننا في الآن ذاته لا نستطيع أن ننكر أهمية دور الفلاسفة المسلمين في تقدم الحضارة وفي تحقيق نهضة الأمة في شتى المجالات. وما قيل عن تراجع بعض الفلاسفة ثمة محققون جدد يشيرون إلى أن كل المنثورات في هذا الشأن ليست من كتب أو مخطوطات أصلية تنتسب إلى أولئك الجهابذة من الفلاسفة في تلك الحقبة بل هي منقولة من مصادر ثانوية مثل مؤلفات ابن تيمية والذهبي. اهتمام المفكرين بالفلسفة وعلم الكلام في العصرين الأموي والعباسي كان له ظروف خاصة وأسباب تاريخية كما يشير إليها أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام”. وتلك الحقبة كانت تختلف عن بساطة فضاء الصحراء التي نشأ وترعرع فيها الإسلام. في أوائل القرن الثاني من الهجرة إثر الفتوحات الإسلامية كان ممن دخل في الإسلام من الديانات الأخرى كثيرون لم يتخلصوا تماما من شوائب عقائدهم القديمة وآثار ثقافتها. وهؤلاء دخلوا في الإسلام ورؤوسهم مملوءة بالأفكار اللاهوتية التي تسلحت بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني. وفضلاً عن هذا كان في بلاط الدولة الأموية من يشغلون مناصب عليا من أصحاب الديانات الأخرى. وهؤلاء كلهم شاركوا في إثارة الشكوك حول الإسلام الذي يمتاز بعقائده البسيطة. وهذه الظروف الخاصة هي التي دعت بعض العباقرة في تلك الحقبة أن يتسلحوا بنفس السلاح الذي يتسلح بها العدو. الجدل حول المسائل الكلامية كان نتاج هذه الظروف، فانتهضت حركات مثل الاعتزال بقيادة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهما دفاعًا عن العقائد الإسلامية وحاولوا أن يردوا هجمات المُلحدين وما أثار اليهود والنصارى والزرادشتيون من شكوك حول الإسلام. كرههم جمهور المسلمين لأنهم خالفوا أهل الحديث في كثير من آرائهم فحمل عليهم المحدثون حملات عنيفة موجهين لهم التهمة بأنهم حولوا العقيدة الإسلامية البسيطة إلى عقيدة فلسفية عميقة، ولما نكلوا بالناس في القول بخلق القرآن في عهد المأمون الرشيد والمعتصم بالله دون أن يسيروا سيرة فلسفية في الاكتفاء بتأييد رأيهم بالحجة زادت كراهية النَّاس هذه ضدهم. ويجدر الذكر هنا أن من قاد حركة المُعتزلة ليسوا ملحدين ولا فاسقين بل كان منهم تقاة صالحون، ليس من الإنصاف طردهم إلى خندق الزندقة. فواصل بن عطاء تصفه زوجته أنَّه كان إذا جن الليل صف قدميه يُصلي ولوح ودواة بجانبه فإذا مرت به آية فيها حجة على مُخالف جلس فكتبها ثم عاد إلى صلاته. ويُقال إنه قد ألف كتاباً فيه ألف مسألة للرد على المانوية، هل يستطيع أحد أن يُنكر قيمة تفسير القرآن لجار الله الزمخشري؟ وسيد قطب ذاته قد اعترف بقيمته الأدبية في كتابه “التصوير الفني في القرآن”.  ما كانوا كلهم علماء السلطة، وكان فيهم من أبى أن يتولى المناصب في الحكومة، وقد حكى ابن قتيبة حكاية زهد عمرو بن عبيد.

الكتاب الذي نعرضه هنا يُقسّم إلى قسمين، القسم الأول يحتوي ستة فصول علاوة على مقدمة الكتاب. تتناول تلك الفصول المواضيع التالي ذكرها: (1)الفكر العربي قبل الإسلام، (2) الفلسفة الإسلامية – مصادرها ومحتوياتها، (3) آثار العناصر غير الإسلامية في الفلسفة الإسلامية، (4) علم الكلام: مقاربات مختلفة، (5) الشيعة، (6) التصوف. وفي مقدمة الكتاب يقول المؤلف إن هذا الكتاب محاولة متواضعة لمتابعة تطور الفكر الإسلامي بحيث يركز رئيسيا على مناهج الفلسفة الإسلامية ويتناول من ضمنها مسالك علم الكلام والطرق الصوفية المختلفة. وفي القسم الثاني يبحث المؤلف إسهامات الفلاسفة المسلمين مثل أبي يوسف الكندي ومحمد بن زكريا الرازي وأبي نصر الفارابي وابن سينا وابن مسكويه وإخوان الصفا وأبي حامد الغزالي وعمر الخيام وابن ماجة وابن رشد وابن طفيل وشهاب الدين السهروردي وفخر الدين الرازي وابن عربي وجلال الدين الرومي وابن تيمية وابن خلدون وأحمد السرهندي وشاه ولي الله الدهلوي. يأخذ الكاتب القراء إلى عمق أفكار هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين ويلقي الضوء على مختصر سيرة حياتهم.

حين يُبحر الكاتب إلى أعماق أفكار هؤلاء العباقرة ويقدم للقراء خدماتهم العلمية الجليلة كما هي بدون انتقاد وتحليل من جانبه وهو لا يحاول أن يحكم عليها بنفسه بل بدلا من ذلك يفتح مجال الجدل الذي جرى بين هؤلاء الفلاسفة أمام القارئ ويترك له الحكم في هذا الشأن، وكذلك عندما تعامل موضوع الشيعة اهتم باتخاذ موقف محايد حميد بعيدا عن كل النزعات العصبية والطائفية مُركِّزا على نقطات التوحُّد في عقائد السنة والشيعة. وفي فصل يشرح فيه علم الكلام يبدو أن الكاتب لم ينصف حركة الخوارج حيث اقتصر على صفحة واحدة دون أن يلتفت إلى الإباضية إلاّ بذكر اسمها بين سطور فقط رغم أنَّ لها أتباعا كثيرين على الأقل في المغرب وسلطنة عُمان، بينما المعتزلة وغيرها من المدارس الفكرية لا وجود لها على معمور الأرض في العصر الحاضر.

هل كان أبوبكر الرازي منكر النبوة والآخرة؟ يكرر المؤلف هذه التهمة التي وجهها إلى الرازي بعض القدماء مثل أبي ريحان البيروني، وفي الوقت ذاته نرى الذهبي يضم اسمه في كتابه سير أعلام النبلاء. والمدافعون عن الرازي يشيرون إلى أنَّ هذه التهمة ليس لها أساس وهي مأخوذة من مخطوطة منسوبة لأبي حاتم الرازي الإسماعيلي عنوانه “أعلام النبوة”. الصفحة الأولى من هذه المخطوطة مفقودة، فلا يُعرف اسم الشخص الذي كان يرد عليه أبو حاتم. يقول جورج طرابيشي في مقدمة هذا الكتاب “مع أنَّ الصفحة الأولى من النسخ المخطوطة قد سقطت وغاب بالتالي اسم الشخص الذي يتصدى مؤلف أعلام النبوة للرد عليه فلا داعي للشك في أن من يُسميه أبو حاتم في سائر فصول كتابه “الملحد” فلا يجب أن يكون هو أبابكر الرازي، يعني أن نسبة كتاب “مخارق الأنبياء” وغيره من مؤلفات تطعن بالأديان لأبي بكر الرازي يرجع للظن أولا وأخيرا”. المقتطفات في ذلك الكتاب في الحقيقة كانت لملحد مجهول زعم البعض أنه أبوبكر الرازي. ثم إن أبا بكر الرازي كان له كتابان الأول منهما باسم “إن للعبد خالقا” والكتاب الثاني باسم أسرار التنزيل في التوحيد”. وجدير بالذكر هنا أن جميع كتب الرازي المتعلقة بالأديان مفقودة ولم يصل منها إلينا إلاّ اقتسابات ذكرها منتقدوه.

وعلى كل حال لا يتردد أحد في أن يعد هذا الكتاب إضافة قيمة إلى المكتبة المالايالامية.

 

اسم الكتاب: الفلسفة الإسلامية عبر القرون.

 المؤلف: أ. ك. عبد المجيد

اللغة: مالايالام، إحدى اللغات الهندية المحلية

عدد الصفحات: 540 ، سنة النشر: 2018

الناشر: دار النشر الإسلامي، كوزيكود، كيرالا، الهند             

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى