ماء الورد

نور الهدى شعبان | سوريا
الماءُ الَّذي تسلَّق وجهَ الوردِ، جثى تحتَ ظلالِهِ يداعبُ خصلاتِ شعرَ الرِّيحِ، يسألُ حجارةَ الطَّريقِ الرَّمليِّ الصَّغيرِ عن شغفٍ تسلَّل في منتصفِ الَّليلِ ولم يعدْ.
يهمسُ في حضنِ الهضبةِ الغافيةِ تحتَ ظلالِ الأشجارِ المعمِّرةِ الّتي شهدَتْ شغفَ طفلينِ عانقا الحبَّ منذُ نعومةِ أناملِهما قبلَ أنْ ينالَ الجفافُ من نشوةِ قلبِهما و تلتهمُ دفاترُهم ذاكرةَ تويجاتِ الوردِ المعجونةِ بألأشواقِ وأطواقِ الطُّفولةِ المهرولةِ في مساحاتِ القريةِ البسيطةِ …
حيث يرسمُ الحبُّ على جذوعِ الأشجارِ، وحيثُ يغنِّي للسَّواقي بدلالِ الشَّقوةِ والبراءةِ، بينما بلبلٌ طروبٌ لا يأبَهُ لبندقيَّةٍ مصوَّبةٍ نحوَ حلمَهُ المحلِّقُ بفرحٍ.
يرقصُ فوقَ خريرِه قبلَ أنْ تغتالَ الرَّصاصةُ بقايا لحنِهِ الحزينِ المنطلقِ من أنفاسِه الآخيرةِ، لتحتفظَ الطَّبيعةُ بلحنِ خلودِهِ دونَ ضجيجٍ.
فورودُ الجوريُّ الملوَّنةُ النِّيسانيَّةُ اعتادَتْ أنْ تشهدَ على قصَّةِ حبٍّ خطَّتْ على تويجاتِها المتناثرةِ شغبَ سحر و شقوةَ منير اللذان حملا على متنِ طفولتِهما أحلاماً بريئةً و عشقٍ لم يكتَبُ لَه أنْ يلمسَ القمرِ ولا أنْ يقيمَ زفافَه في ربوعِ القريةِ البسيطةِ لتبقى آثارَهما هائمةً في المكانِ تغرِّدُها الطَّبيعةُ بحزنِ الوردِ وشوقِ ماءِه للحنين ِ.
سحر: كبرنا يامنير ولم تزلْ ذاكرتنا تغتسل بماء وردنا المعقود بالجوري والزنبق والياسمين ..
أتذكَّرْ جدَّتي و هي تصنعُ ماءَ الوردِ من باقاتِ أزهارِنا وتضحكُ لشغبِنا وعبثِنا قبلَ أنْ يسطوَ على ابتسامتِها الرَّحيلُ .
منير: أجل مازلتُ أذكُرُ تجاعيدَ وجهِها الَّتي لمْ تستطعْ أنْ تنالَ من وسامتِها، أذكرها حينَ كانَتْ تصنعُ لَنا أطواقَ وردٍ و تزفُّنا كعصفورين عاشقين ..
سحر: (تنظرُ إليهِ بعينين دامعتين وتختنقُ الكلماتُ والحسراتُ في حنجرَتِها)
فتهمسُ بصوتٍ متحشرجٍ (و نالَتْ من العصفورين مكائدُ الصَّيادينَ و أعينُ القريةِ يا عزيزي ..)، وانهمرَتْ دموعُها باستسلامٍ أمامَ الاقدارِ الَّتي سنَّتْ أنيابَ المشرِّع البالية ، لتنهشَ لحمَ العصافيرِ المتمرِّدةِ على الأحكامِ …
منير: اخترْتُ طريقاً يسكنُهُ سرابُكِ و ذاكرةٌ خرساءَ، علِّي أحميكِ من مكرِ الأعينِ و شرورِ الحراسِ من خطيئةِ الوردِ الَّتي لاتغفرْ، فكانَ التَّرحالُ يثقلُ كاهلي و يتسلَّلُ من تحتِ جلدي حنيني فأهربُ بذاكرتي منك ، وها أنا بعدَ انهيارِ فصولَ عمري تصدمُني ساعةٌ هاربةٌ من زمنٍ تأخَّرَ حتَّى اغتالَ المشيبُ وردَنا ولم يحفظْ ماءَ وجهِنا من جريمةِ الطُّفولةِ ، لأقعَ مجدَّداً بين يديك معتَّقاً مجبولاً بالحبِّ والحنينِ ..
سحر: كبرْتُ و روحي المعلَّقةَ بذيولِ الذَّاكرةِ تأبى أن تخلعَ تيجانَ الوردِ حول عنقِ ذاكرتي وهي تحتضرْ ..
والحيرةُ تأكلُ عيوني وهي تبحثُ عن طيفِك و تحتضنُ حجارةَ الطَّريقِ، لتسرقَني إلى البستانِ الكهلِ وأتأمَّل رقصتنا على أوتار احنت ظهرها انغامُ الريح بينما احتفظُت بزجاجةٍ من ماء الورد كنت قد تركتها ليوم اسقي فيه حرارة الشوق ليتجول العشق مختالا فوق المكائد ويرتوي من ماءِ الورد ..
منير: تعالي إذا نهمس لماضينا و نجمع قبلات الورود لذكرياتنا التي سرقتها الأقدار تعالي نهيِّئ قدرنا من جديد ونصنع بأيدينا ماء الورد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى