من يحمينا من غول الحكاية يا أبي؟

بقلم: خالد جمعة

كان الحيُّ مليئاً بأحصنةٍ ومواويلَ تفرشُ قوافيها على بيارات البرتقال القريبة، والماءُ كان بوفرةِ الهواءِ، وسواقي من عرقِ الفلاحينَ تُبهرُ الملائكة، كنّا نمسحُ دموع الأطفال فتصيرُ فضّةً في المناديل، لكن غول الحكاية كان دائماً في المشهد، أسودٌ طويل النابِ بصوتٍ يشبه تدفّق صخورٍ من أعلى الجبل، وكلمة واحدة من قلب أمٍّ مطمئنّةٍ كانت تكفي لتنزع صورته من الهواء: قولوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان الغول والشيطان في أدمغتنا الصغيرة صورتان لكائن واحد.

///

كبرنا، وكبر الغولُ بالطريقة ذاتها، وتغيرت ملامحه، صار وجها عادياً يمكنك أن تراه في الشارع أو في الحلم، بوجه وسيمٍ ويدين لطيفتين تلعبان بمسبحةٍ أو بكتابٍ عن الثورة، لكنه ظلّ مرعباً مثل ظلٍّ بأظافر، وكلما كبرنا اختفت الخيول، وخفتت المواويل، بينما الغول يتخلصُ من بقايا الأحلام في أرواحنا، ويمضي ليقبّل عشيقته الوحيدة: العتمة.

///

من يحمينا من غول الحكاية يا أبي؟

خرج الغول من الحكاية التي لم تعد حكايةً، أعلن عن ذاته في مهرجانٍ واسعٍ أطلق فيه ملايين الأوراق الملونة، وكانت هناك عصافير من خشب لم نعرف كيف أعطاها قدرة الطيران وقدرة الخديعة، كان كل ما فيه جميلاً وساحراً، وقاتلاً أيضاً، كثيرون ماتوا، وكثيرون استسلموا للغواية، وبقينا نحن القليلون الذين لم نمت ولم نستسلم، نبحث عن زاويةٍ لا يمكنه أن يرانا فيها، وسعينا لننشر صورته الحقيقية كي يراها الأطفال الذين لم يتعرفوا بعد إلى خوفهم، كان له أعوان يمزقون الصور، ويؤلفون حكايات عن ضعفه وينشرونها في كتبٍ مبهرجةٍ بحروفٍ من زمرّدٍ مغرٍ، لا تؤثر فيها الفصول.

///

من يحمينا من غول الحكاية يا أبي؟

صار الغولُ مملكةً، ومزارع من كلامٍ ومتاهات، كبرنا يا أبي إلى الحد الذي صارت فيه للحجارةُ قدسية لا تناقَشُ، وابتلعنا الخناجرَ كلّها، برواياتها الكثيرة  عن الوطن والأحياء التي تجاور الشهداء، عن بركات القديسين الذين وزعوا أرواحهم على التراب، على مياه النهر القليلة، على دروب العاشقين الصغار، وعلى طرق الصوفيين العاجزة أمام كل هذه الغيلان، وحدك يا أبي من أخذ دروع حمايتنا وغادر، وها نحن نجلسُ مثل فراخ الطير في أعشاشها، نلوك زقزقاتنا، وننتظر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى