حين تدحض “الثورات العربية”..حسابات البنتاغون

محمد المحسن | تونس
مليون عين فقأت.. سيكفي.. ويكفي لترجع من موتنا ملكا فوق عرش الزّمان الجديد”
لقد بات من الواضح-لا سيما بعد سقوط بغداد-أنّ الأخطار المحدقة بالوطن العربي في كافة بلدانه لا تقلّ خطورة عن مرحلة بداية القرن العشرين،فما تطلبه واشنطن كل يوم عبر التعليمات المتلفزة لا يختلف كثيرا عن التعليمات والفرامنات السلطانية التي كانت تصدر عن الباب العالي..وهذا يعني أنّ الولايات المتحدة بقيادة اليمين الأمريكي المتطرّف تعتمد بالأساس على مفهوم الأمن القومي والسيطرة والإملاء بالقوّة على الشعوب والمجتمعات الأخرى.والخطر في إطار هذه السياسة اليمينية القومية الجديدة يتجسّد في أنّ الأمريكيين يتعاملون مع العالم كما لو كان حقل صيد:يأخذون الموارد والكوادر والأسواق التي يريدون،ويرمون ما لا يلزمهم خارجا.إلاّ أنّنا إذا تركنا العالم في أحواله وأحوال الإر هاب الأمريكي فيه،يقف أمامنا مباشرة العالم العربي الذي ما فتئ يعاني سياسة أمريكية متوحشة،هي مزيج من غطرسة القوّة والنزعة الصليبية القديمة وروح”اكتشافية مؤمنة” تساوي ضمنا، بين الفلسطينيين مثلا – والهنود الحمر الراقدين في مقابر لا عدد لها.وإذا ما نظرنا بعين ثاقبة في علاقات أمريكا بالعالم العربي فإننا لن نجد في تضاعيفها إلا مسلسل إعتداءات أمريكية لا تنتهي حلقاته.ولكأنّ العلاقة العربية- الأمريكية لا تستوي إلا في علاقات السيطرة والإخضاع،أو في إطار التحدي والمواجهة والهزيمة.ومن هنا فالعالم العربي لا يبدو سليما وفاضلا  ومقبولا بالمنظور الأمريكي إلا إذا ارتضى بالمعايير الأمريكية،فإن رفض حلّت عليه”اللعنة”الأمريكية صباحا و”زاره” مشاة البحرية عند المساء..
وإذن؟
يتجلّى إذن-في ظل هذه التداعيات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي-ذلك العنوان الواسع والمعروف وهو “غطرسة القوّة” التي تخلق الجلاّد والضحية في منطق متغطرس يجعل الجلاّد ضحية والضحية جلاّدا، كأنّ القوّي وقد تحرّر من كل الروادع الأخلاقية والإنسانية والدينية..يردّد بلا كلل “البقاء للأقوى ” غير أنّ هذا البقاء الغريب يهدّد الموروث الإنساني كلّه،ذلك أنّ الإنسانية أنتجت،في ما أنتجت،مفاهيم النظام والقانون والدستور والعرف الإنساني العام،ولعلّ هذا البقاء الغريب،على الطريقة الأمريكية،هو ما يجعل الولايات المتحدة تغتصب الإرادة الدولية وتعبث بالأمم المتحدة،ولعلّ كذلك ايديولوجيا الإنتصار،وهي عبث بالقيم الإنسانية الفاضلة كلّها،هي ما أطلق على لسان موظفين في وزارة الخارجية الأمريكية تعابير غريبة مثل:”نهاية التاريخ “ونعني نهاية الإرادات الإنسانية أمام الإرادة الأمريكية،و ” صدام الحضارات ” الذي يعني تدمير الهويات القومية والدينية المستضعفة بأدوات الرّدع والدمار الصادرة عن الثورة التقنية المتجدّدة.ولذلك لم يكن غريبا أن تغرق بغداد في حمامات الدّم،بمنأى عن عدسات المصورين،أو أن تُنهَب-ذاكرة شعب-بإحتراق مكتبته الوطنية واستباحة متحفه الوطني،مما يؤسس لإلغاء الحضارة وحرق التاريخ.إلاّ أنّ في مقابل غطرسة القوّة التي تخلق الظواهر عن طريق الأسماء والتسمية تقف ايديولوجيا الإستضعاف.ذلك أنّ المستضعف وهو غير الضعيف، يتلقّى الضربات الموجعة ويصمت،لأنّ “الحجج”التي يسوقها ضعيفة وغير مقنعة، ولم يكن-كيسنجر-مخطئا حين قال :”يستطيع القوّي أن يكذب دون أن يكذّبه أحد” معلنا أنّ القوّة هي الحقيقة الوحيدة،وهذا ما يتجلّى بوضوح في سماء بغداد !
والسؤال:إلى متى سنظلّ نعيش في ظل هذا العالم المحكوم بالفوضى والعنف وإيديولوجيا القوة والسّديم ؟وهل كُتِب علينا أن نبقى ضعفاء تُمنَع عنّا وبأكثر من قرار عالمي،الديمقراطية وحقوق المواطنة والسلطات السياسية التي تعرف معنى الدستور والقانون؟ وبسؤال مغاير أقول:هل قدّر على الفلسطينيين أن يفقدوا إنسانيتهم ويرضوا بوجود بيولوجي بائس يؤمّن استقرار الإحتلال الإسرائيلي ويشيّد بفضائل الصهيونية !؟وهل كُتب كذلك على العراقيين أن يفقدوا “ذاكرتهم ” و”تراثهم” وعمقهم الحضاري،ويرضوا في المقابل ب”حكومة وطنية “تدير شؤونهم من على ظهر دبابة إسرائيلية!؟ ..قطعا..لا..لذا سأقول:إنّ هذه التداعيات المؤلمة التي تشهدها الساحة العربية..هنا..أو..هناك تتمّ في سياق ما يسمّى بالنظام الدولي الجديد،الذي هو بالأساس فوضى جديدة تكتسح العالم:نهبا وقتلا وتشريدا..لا سيما بعد أن استولت الولايات المتحدة على آخر الأجهزة التي كانت منفلتة منها والمتمثلة في هيئة الأمم المتحدة التي أصبحت مطيّة لتنفيذ استراتيجيتها في كل مكان..ومن هنا فإنّ ما عاشه العراق تحت حراب القوات الأمريكية الغازية جزء من مسلسل بدأ منذ مدّة ليست بالقصيرة،ولن يقف عند حدود بغداد،بإعتبار أنّ العرب يمتلكون ثروات نفطية ولأنهم يوجدون بإستمرار في موقع المواجهة.إلاّ أنّ الحرب علينا لن تكون دوما هي اللجام،فالتهديد بها وتوتير الحدود وشدّ الأعصاب يكفي.مما يعني أنّ تهديد سوريا مثلا،والضغط عليها في جوهره تهديد للعرب جميعا،وإيران معهم،للسيطرة على الخليج بأكمله من باب المندب إلى شط العرب.لذلك يصبح تسويد-كامب ديفيد-على صراع الشرق الأوسط،هو الحل الوحيد أمام -صقور البيت الأبيض وغربان تل أبيب-لأنّ أي تعديل هو فتح ثغرة في بناء هذا الحلف-الأمريكي-الصهيوني-لا أحد يدري ماذا يمرّ منها ويتسرّب.
ولكن..كما إنتهى-انطوني إيدن – رئيس وزراء بريطانيا، و – جي مواليه – رئيس وزراء فرنسا بعد 1956 انتهى بدوره بلير من رئاسة حكومة بريطانيا،و تلاشت-بشكل مهزوم- الزمرة الحاكمة في البيت الأبيض،فالأمر لا يحسم بقوّة العدوان بل بشدّة المقاومة، وإذا كان الغزاة قد احتلوا-بالأمس- بغداد بالفعل،إلا أنّ هذا لا يعني أنّ المقاومة استسلمت بل قاومت و انتصرت،خصوصا أنّ – التتار – الجدد لم يستهدفوا أرض العراق فقط بل روح وعقل ووجدان وحضارة وتاريخ العراق شعبا وأرضا.
وهنا أضيف: إذا كان الأمريكيون يعتقدون بأنّ سياستهم من المنعة بحيث تكبح كل مقاومة وممانعة،فإنّ منطق التاريخ يعلّمنا أنّ الهيمنة تولّد المقاومة،والسيطرة تؤدي إلى الممانعة،فهيمنة نابليون على أوروبا جعلت من بريطانيا “مركز مقاومة”مناوئا لمركز القوة،أدّى إلى فشل نابليون في واترلو.كما فشل هتلر فوق ثلوج ستالينغراد في إملاء منطق القوة الأحادي على أوروبا والعالم، وأفشلت الصومال برمالها المتحرّكة سياسة القوة،وفشلت قوة “إسرائيل “النووية، أمام منطق المقاومة، بإنتصار الدّم على السّيف، والسواعد على الترسانات النووية، وهذا يعني أوّلا وأخيرا أنّ بغداد التي سقطت – بالأمس – تحت سنابك الغزاة ستنهض-اليوم- من جديد، سيما بعد انسحاب القوات الأمريكية مدحورة، ويعيد التاريخ نفسه من بورسعيد إلى بغداد،ومن قناة السويس إلى دجلة والفرات، ومن البحر الأحمر إلى الخليج، ومن أحمس إلى حمورابي، ويجمعهما صلاح الدين..
لست أحلم، ولكنّه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء،من حسابات البنتاغون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى