وداع بالحبر السري إلى خالدة جرار وجارتنا أم حسن
شوقية عروق منصور | فلسطين
بين الأم والقضبان مسافات من العشق الممنوع، بين الأم والقضبان وطناً يزهر فوق أصابع الخوف وبقايا حنين إلى احتضان الأبناء ، لا أحد يراقب مراكب الاشتياق، لأن السجان قد سرق كل شيء ولم يترك سوى تنهدات أم تدوس على أنفاس الذين قرورا حرمانها من رؤية وجه ابنتها قبل دفنه في تراب الوطن .
تتبعنا بألم وحزن عميق الأم المقاومة الفلسطينية ” خالدة جرار ” السجينة في سجن الدامون والتي توفيت ابنتها ” سهى ” وهي بعيدة عنها، ولم تستطع الأم حضور جنازتها بعد أن رفضت السلطات الإسرائيلية بصلف وعنجهية بعيدة عن الإنسانية طلب المشاركة في الوداع الأخير ، ولم تجد الأم الثكلى أمامها إلا أن تحضر عبر أكليل من الورد كان في مقدمة الجنازة ، كتب عليه ” حرموني وداعك بقبلة أودعك بوردة “.
في زمن صناديق السياسيين الفارغة والانتقام المصاب بلوثة العنصرية والصهيونية ، تصبح الوردة الطريق والجسر الذي يحمل صرخات القلب المصاب بالهذيان.
الأم ” خالدة جرار ” التي تنزف وجعاً من بعيد ، تذكرنا بأمهات عشن متلاصقات بوجوه أبنائهن وهن يعرفن أن أبنائهن دفعوا أعمارهم من أجل الوطن، وقبورهم غير معروفة ، وإذا كانت ” مقابر الأرقام ” سيئة الصيت في إسرائيل تحوي مئات الجثث للأبناء والأزواج والأخوة والأصدقاء لا تحمل الأسماء بل تحولت الى ارقام تتنزه في أجواء سياسية مقيتة ، هناك في المقابل ، في زوايا النسيان تقبع الأمهات والأخوات والزوجات يمضغن حزن الغياب .
حزن الأم ” خالدة جرار ” يذكرني بالشاب “حسن ” الذي أراد أن يرى والدته فهو الأبن الوحيد لها وقد جاء متسللاً من لبنان بعد النكبة ، أراد العودة إلى قريته ، لكن غرق كما كانت تقول ” أمي ” بنهر المقطع- يعرف بنهر حيفا يجري شرقي جنين في الضفة الغربية – ولم يعرفه أحد عندما طفت جثته، وقد قامت إسرائيل بتسليمه للجيش اللبناني بعد ذلك ولم تعرف الأم بوفاته إلا بعد عدة سنوات، ودائماً كانت حسرتها تنطلق بآهاتها النارية، تردد ” لو حضنته ، لو شميت ريحته ، لو أعرف قبره ” ورغم موت أم حسن لكن ما زالت آهاتها تدق ذاكرتي بإيقاع الأمومي الحزين .
كل بيت في فلسطين له حكاية مع موت الغربة ، موت الشتات ، الموت بعيداً عن الأهل ، موت الأمهات والآباء والأخوة والأبناء في السجون أسرى الحرية ، وتكون أول زيارة للأبناء عندما يطلق سراحهم الهرولة إلى المقابر كي يبكون بحرية، بعد أن كان شعارهم التماسك أمام السجان .
كثيرة هي الحكايات مع الموت البعيد، الذي يتحول الى قبضة حزن تعصر القلب ولا تجد ملاذاً سوى الدموع وفتح دفاتر الذكريات .
الأم الفلسطينية قضت عمرها وهي تتعارك مع الأقدار التي تحرمها من الهدوء والاطمئنان ، وكلما حاولت وضع رأسها على ركبة الأبن وتراه بعين الأمومة كبيراً ، ناضجاً قوياً ، تركلها الأحداث وتعيدها الى فقدان الأبن و وجع الأمومة .
الأم” خالدة جرار ” تعيد للأمومة الوجع المبطن بكاتم الصوت ، وحتى تبقى قوية أمام جلادها تتغطى بثياب الثبات، مثلها مثل جميع الأمهات الفلسطينيات يزغردن ويقمن بالغناء عندما يستشهدن الأبناء ، ولكن قلائل هم من يعرفون أنهن – أي الأمهات – يكتبن عذابهن بالحبر السري حتى لا يراه الأعداء ويشمتوا بهن