التاريخ البشري وتغليب ثنائية الحاكم على المحكوم

بقلم : عماد خالد رحمة | برلين

لم يتوقف التاريخ البشري عن تقديم الأحداث ومجرياتها في سياقات متعددة وتحديداً، ما جرى ويجري بين الحاكم والمحكوم، لأنَّ هذه العلاقة لها تاريخ حافل بالمتجانسات والمتناقضات، وبالاضطرابات والاستقرار، بحسبانها تقوم على قواعد فلسفة الأمة وثقافتها ومفاهيمها تارةً، وعلى فلسفة الحاكم والمتربع على عرش السلطة وطبيعته تارةً أخرى.
لقد شهدت البشرية عبر سيرورتها التاريخية فترات كان الحاكم فيها له السلطة والقوة المطلقة التي يتظاهر بأنه صاحب الإرادة الأوحد، وصاحب القدرات والسطوة المتفرِّد، فما كان منه إلا أن تظاهر بأنه إله،وأنه سيبقى إلى الأبد، أو يدعي الألوهية والربوبية وهو الأب والقائد ورئيس مجمع الأرباب.
ففي العصور الوسطى التي عاشتها أوروبا برزت العديد من النظريات الغربية التي استحكمت في عقول وقلوب وصدور الحكّام والمحكومين. وتجلت نظرية الحق الإلهي، التي لا ترى الحاكم سوى امتلاكه للسلطة المطلقة المستمدة من الله تعالى. فهو يعيش الحالة ويمارسها حسب رغباته وحسب ما تقتضيه مصلحته. إذ لا يحق لأيٍّ كان الاعتراض على مواقفه وتصرفاته وقراراته، لأنه يعتبر نفسه مختاراً من الله الذي اصطفاه دون غيره ليرى الناس ويسوسهم بالعصا والجزرة وفي كثير من الأحيان بالعصا دون الجزرة. وسادت سلطة الكنيسة ضمن هذا السياق وتلك المعايير ردحاً من الزمن.

   وباتت طبقة الكهنة ورجال الدين والمتفيقهين رويبضة ويحكمون الأرض ومن عليها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي نظرية الفيلسوف والمؤرخ والسياسي الإيطالي نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلي، تلك النظرية التي تضمنت جملة من النصائح للأمير بأن يتبع سبيل القوة والخداع بحجة أنّ الغاية تبرر الوسيلة. تلك المقولة أصبحت شعاراً ورمزاً للميكياليفية التي وردت في كتابه الشهير (الأمير). فعلى الرغم من كل ما شهده هذا التاريخ العميق من قهر وظلم وخداع بحق أصحاب المواهب والعقول النضرة الذين قرروا تسخير عقولهم ومواهبهم لخدمة الإنسانية.

     إلا أنَّ هذه المواهب وتلك العقول لم تنقطع عن العطاء ولم تنقرض على الرغم من أساليب القمع والإمحاء. لقد شهد التاريخ الإنساني أحداث لا يمكن إغفالها أو نسيانها فمثلا تم بتر أصابع الأستاذ والمخرج المسرحي والمغني الأكاديمي العازف التشيلي (فيكتور ليديو جارا ماترينيز) عقاباً له على ما عزف، وبسبب نشاطه السياسي الداعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وموقفه المعادي لنظام الجنرال الدكتاتور أوغستو بينوشيه. لكننا نقول مجازاً أنه نبتت له آلاف الأصابع في قلبه وشعوره ووجدانه العميق.

    والفنان مالك الجندلي الذي استأصلوا حنجرته فقد أنشد من كل مسامات روحه وجسده ووجدانه. كما تم سحق الكف اليمنى لفنان الكاريكاتور التي ترسم الحقيقة فقد تم هرسها تحت حذاء عسكري اسبارطي، لكنه واصل العطاء والرسم باليد الأخرة.
في كل مرة من مرات استخدام الجلّاد أقسى أنواع العنف والتعذيب والسحل والقتل يكون مخطئاً لأنه يعتقد أنّ الفنان ينحت بأصابعه أو يرسم أو يكتب بيده، لأنَّ كل ماذكرناه هو مجرّد أدوات فقط، ولا يمكن أن ينوب عنها شيئ آخر. فقد كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

    والكاتب التشيلي خورخي لويس بورخيس من أبرز كتّاب القرن العشرين ، وهو الذي تم تعيينه من قِبَل الحكومة العسكرية المناهضة للبارونية كرئيس للمكتبة العامة. وحيث فقد بصره تماماً كسابقه الشهير بول غروساك. وسائر تلك السلالة العظيمة الخالدة من أصحاب البصائر والعقول المتوهجة النضرة كانوا يملون ما يفكرون به على غيرهم ويحفظونه في موسوعات ومجلدات وكتب هامة.
لكن عقاب الأديب والمفكر والفنان ليس بالضرورة عقاباً عضوياً أو نيلاً من جسده المعطاء،بل العقاب يأتي من الحط من قدره وقيمته والانتقاص من حضوره ونتاجه لصالح الحاكم الفرد المتسلط. من هنا نؤكد على فكرة هامة وهي أنّ التاريخ في مجراه العميق وفي سياق سيروروته هناك محاورات وسجالات لا تنتهي بين الجلاد والضحية ،وبين السجان والسجين. ونهوضٍ وكبوات ،وغروب وشروق .سواء كانت تلك الثنائيات قد تعلقت بالحضارات الإنسانية أو حتى بالأفراد الذين يعيشون تحت ظل الحاكم الفرد .
إنّ جملة ما جرى في جميع السياقات التاريخية تؤكد على أنّ الأديب والمفكر والفنان يكون مخطئاً إذا تخيّل أنه قادراً على الحصول على حصانة ضد العقاب، وهو بالتأكيد يشبه المهندس المعماري الفذ سمنار الذي دفع حياته ثمناً لإبداعه وقوة عقله ولما أودعه من سر العمران والبناء الفخم في حجر.

  للأسف الشديد ما نجده في عصرنا المرمّد الذي نعيشه نجد أنّ هذا العصر قد تم إفراغه من الفروسية والشجاعة والتراجيديا والإيثار من الشهود الواقفون على حد الحقيقة، والقابضيون على جمر الحق والحقيقة، وذلك بسبب الخلل الهائل الذي تعانيه بسبب تغليب (الأنا) على (النحن) و(المادي) على (الروحي) و(الشخصي) على (الإنساني) و(العام).

   إنّ ما نعيشه على أرض الوقع وعلى الرغم من حكم التطور النوعي والهائل، إلا أنّ هناك سطوة وقوة تفرض على جموع الشعب الذي يعاني من مثلث الفقر والمرض والجوع خارج كل مداراته وعقله ومداركه وأحاسيسه الإنسانية، التي تحوَّلت إلى عدم الإحساس الإنساني بشكلٍ نهائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى