في علم الجمال.. الفن: الشكل والموضوع

د. خضر محجز – فلسطين

الفن هو ما يمتع. فإن قلتَ: وعليه أن يفيد. قلنا ممكن، لكنه ليس الشرط، لأن الممتع قادر على إقناعك بأنه يفيد. ذلك لأننا حين نتحدث عن الفنون، فإنما نتكلم على الأداء البشري المتقن، ثم الموضوع الجميل.

الشكل أولاً، ثم يأتي الموضوع. ولا قيمة للموضوع خارج الشكل من الناحية الفنية. ونحن لا نتكلم عن الفن إلا من وجهة نظر ما يمتع.

وكل موضوع يجد شكله المناسب ـ كما يقول هيجل ـ على يد الفنان القدير. أما غير القدير فيستطيع تحويل موضوع ذي قيمة إلى قبح لا قيمة له.

فعلى سبيل المثال، لو كان شرف الموضوع هو ما يحدد قيمة الفن، لكان مسلسل “باب الحارة” أفضل من فيلم “العراب”، ولكانت أغنية “كنا ثماني قتلنا العدو وكان بحالة تعبانة” أجمل من أغنية “فوق الشوك”.

ففي مسلسل “باب الحارة” ينتصر الخير، فلا يعجبنا، وفي فيلم “العراب” نعجب بأفعال المجرمين. وفي أغنية “كنا ثماني” انتصر الفدائيون على جنود الاحتلال فلم تعجبنا الأغنية، وفي “فوق الشوك” سمعنا فتى ضعيفاً يتأوه من نار الحب، فأعجبنا أكثر من الذين انتصروا على الجنود.

فكيف حدث أن أُعجبنا بأفعال المجرمين في “العراب”، ولم نعجب بانتصار البطولة في “باب الحارة”؟ كيف حدث أن لم تعجبنا بطولةُ انتصار الفدائيين على “الجنود التعبانين” وألهبت قلوبنا عشقاً أغنية “فوق الشوك”؟

يبدو أننا لم نسأم الخير، بل سئمنا الأداء المقبوح لما يقول إنه الخير.

لقد سئمنا في “باب الحارة” أداءً مقبوحاً لممثلين لم يستطيعوا تَقَمُّصَ أدوارهم، فإن تَقَمَّصوها، فلكثرة ما كرروها صرنا ننزع الأقنعة عن وجوههم، فنرى الممثل ولا نرى الشخصية.

كما أنهم لم يبدوا لنا عاديين ممكني الوجود، بل بدوا تماثيل باردة، تحركها أيدٍ تُعيد ذات العرض كل مرة، مهما تكررت الحلقات، حتى صرنا نتوقع ماذا سيقول الممثل الفلاني قبل أن يقوله. فزال عنصر الدهشة.

أما في “العراب” فلم تعجبنا شرور المافيا، بل أمتعنا ـ حتى الثمالة ـ الأداء القدير لـ”مارلون براندو” وقدرته على إقناعنا، بأن الشر الذي يفعله فيه خير: فهو يثأر لأهله في صقلية بعد عقود من الزمن، وهدوؤه يرعب أعداءه أكثر من ثورته التي لا تحدث. وفي كل ذلك نرى القدرة على التقمص تغرينا بأن نرى في الثأر عدالة، وفي الهدوء حكمة.

فحين قتلت عائلة مافيا منافسة ابنه الأكبر “سوني”، رأينا قدرة “مارلون براندو” زعيم العائلة، المغدور في ابنه، على ضبط أعصابه، مثل ديبلوماسي فَذّ، يظهر بمظهر المسكين الذي يبحث عن العدل، وسمعنا في صوته رنَّةَ أسىً ألهبت خيالنا. ومن منا لم يتأثر بنبرة صوت “العراب”؟

ومثل ذلك حدث معنا حين رأينا ابنه الأصغر “آلباتشينو” يقتل ويحب، فلم نعلم أنتعاطف مع حبه، أم نشمئز من قتله؟. إنه يقتل فيبدو عادلاً، مع أن القتل لم يكن بهدف العدل فقط. لكن قناع الفنان جعل العدل يبدو هو الهدف، بقوة التقمص.

والحب الكبير الذي جمع بين ابنة “آلباتشينو” وابن عمها، كان عظيماً، حتى لقد بدا لنا مثل قصة “روميو وجولييت” حتى شعرنا بقسوة العالم، حين أُجبر ابن العم على التنازل عن محبوبته، مقابل رئاسة العائلة. لقد استطاع أن يقنعنا بأنه مُجبرٌ على التخلي عن حبه، فيما لو تفحصنا الأمر جيداً، لرأينا أنه كان منحازاً لأطماعه.

كم خدعنا هذا الممثل، فجلع القبح يبدو جميلاً!

الفن خداع جميل

هكذا هو الأمر. وأبطال “باب الحارة” لم يستطيعوا ذلك.

أما أغنية: “نزلنا ع العدو يا يما وكنا ثماني.. لقينا اليهود يا يما بحالة تعبانة.. ذبحناهم ورجعنا منتصرين.. يا يما”..

فرغم أنها تفتخر بالانتصار، إلا أنها لم تعجبنا، إذ لم يكن الموضوع جميلاً، فلو كان الشكل جميلاً ـ ولم يكن ـ لما أعجبتنا الأغنية، لضعف قدرة المغني على تقمص حالة الفارس الفخور: وإلا فأي فخر في ذبح من هم “بحالة تعبانة”؟

وعلى عكس ذلك رأينا الفتى من “الحلوات” المريض بالبلهارسيا، عبد الحليم، يتلوى ويتنهد ويشهق ويبكي حبه الضائع، فرأى كل شاب فيه نفسه، ورأت كل عذراء في محبوبته نفسها، وبكى الجميع وهو يلعن الظروف.

الفن متعة وجدت لها موضوعاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى