فلسفة الجسد بين الذكورة والأنوثة في ” إمبراطورية الثعابين ” لـ”أحمد الجنديل”

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

إن لثلاثية الجسد والأنوثة والذكورة هوية أسطورية, وفلسفة شديدة التعقيد, وما زالت البحوث التاريخية, والنفسية ,والبيولوجية عاجزة عن تحليلها ,وفهمها, أو وضع مفهوم محدد لها , لأن جدليتها مستمرة ومتحدة ومتغيرة, والصراع المستفحل الدائر بين الأنوثة, والذكورة من ناحية أنهما جسد, وروح, وكيان, وجدلية أفضلية احدهما على الآخر, جعلها موضوعا أساسا للفنون بكل أشكالها قديما وحديثا, وخصوصا الفنون الأدبية الحديثة المتمثلة في الفن الروائي, التي عبر عنها المبدعون كل بطريقته الخاصة التي تخضع في معظم الأحايين لثقافته, وفكره ووضعه النفسي الاجتماعي, فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بأنماط السلوك البشري, والتجارب الإنسانية, وخصوصا تلك التي يعاصرها المبدع نفسه [1].

    ونحن نتفق مع الدكتورة منى الشرافي فيما ذهبت إليه ,والعملية الإبداعية الفنية بالدرجة الأولى , هي عملية تصعيد وتعويض وتحويل, وإحلال وإبدال وحذف وإضافة, يجريها الأديب أثناء تأليفه نصه الأدبي, وقد نقل الكتاني عن فرويد رأيه في الأعمال الإبداعية الروائية أن :الدوافع النفسية لدى المبدع , إذ تعتبر أنماطا من الأحلام المكبوتة, والرغبات الدفينة[2].

  فالجنس ركيزة أساس تدور حولها الأعمال الأدبية، إذ يعد غاية لأَختراق المحرم، وقد استطاع النتاج الإبداعي، إِنَّ يوظف الجسد داخل إعماله الأدبية، لإضفاء معنى ايروتيكي جديد, ولأنَّ الناحية الجنسية تمثل حساسية في مجتمعاتنا؛ كونها تدخل دائرة المحرم، فالكتابة الجنسية أو النص الجنسي، هو آلة لغوية كتابية تنظيرية، ومن السهل التحكم في صياغة توظيفها  ومن المتعارف عليه في أوساطنا الأدبية والثقافية، إِنَّ الجسد شكل أهمية كبيرة في حياة الناس؛ كونه ذا قيمة روحية كبيرة، فالحديث عنه أجده مرهوناً بالمناسبة، فكما نعلم أَنَّ لكل حادث حديث، أي أَنَّ النتاج الأدبي لا ينفرد بالحديث عن الجنس، بل يحمّل – نتاجه – موضوعات عدّة، فتطور المجتمع أسهم في تطور أساليب الكتابة وتجاوزها للمكبوت[3].

   ونحن نتفق مع الدكتورة وسن مرشد  فيما ذهبت إليه, وفي رواية إمبراطورية الثعابين للروائي الكبير احمد الجنديل تناول موضوعة الجنس لغاية إنسانية عالج فيها انحراف المجتمع, لبعض العادات ,والتقاليد, وتحاول الراوية الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّها, ودعمها ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوية الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد تتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الكاتب, والمتلقي قائماً,وواضحاً، كما ترتكز الرواية على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة ,وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية , ولعل أهم ميزة عند الروائي احمد الجنديل , استخدمه تقنية حداثوية جديدة هي طريقة الميتافكشن , إذ أن الروائي رجل ابتدع فكرة قراءة الرواية للبطلة ساجدة البركان, ويكون النص في سياقه الصحيح , وتبدو أن هناك بطلة تروي قصتها كسيرة غيرية ولاسيما لانحراف المرأة المحجبة ,وهي قضية رمزية للبطلة, والساردة ,وهي تدون مذكراتها الشخصية لكشف المستور والمخفي في المجتمع العراقي , فنراها تقول: أنا الدكتورة ساجدة خليبص شرهان البركان , بنت الثامنة والعشرين ربيعا , سقط راسي من بين فخذي أمي التي تعاني من ثقل أحلامها وفخامتها, وفتحت عيني على عالم فيه من المغريات ما لم أتمكن من الاقتراب منها, دخلت المدرسة فحصلت على لقب الشاطرة, وتخرجت من الابتدائية والمتوسطة بتفوق , وانتقلت إلى مرحلة دراسية جديدة وأنا أعاني من عزلتي , كنت أعالج حرماني بالقراءة  المستمرة وبالتفوق على زميلاتي في المدرسة , أتباهى بجمالي بينهن , واقف طويلا أمام المرآة اتامل مفاتني , جسد رشيق خرج توا من سعير أنوثته إلى جحيم الإغواء , نهدان مورقان معجونان بالتوهج [4].

    فعلاقة الجنس / الجسد علاقة رمزية تكشف عن روائي قد إبداع في جرأة الطرح الفكري,والثقافي, والإيديولوجي ,و الجنسي, والسياسي  وأول من بدأت معها الانحراف صديقتها المقربة جنان التي مارست الجنس معها, فنراها تقول: وفي ليلة كنت جائعة فيها إلى الدفء, زارتني صديقتي جنان, كنت سعيدة بلقائها, وبدون مقدمات احتضنتني, وتسللت أصابعها إلى نهدي, دهمتني رعشة لم اعرفها من قبل إلا أنها لذيذة , أطبقت بشفتيها على شفتي فطرت إلى عالم مترع بالأحلام ,كانت جنان في تلك الليلة القبطان الذي يدير دفة المركب إلى حيث يريد , كنت مثل قشة يبتلعها موج ويقذفها موج , ومع تعاقب الأمواج أسلمت أمري لصديقتي تلعب بي حيث تشاء [5].

   تميزت رواية إمبراطورية الثعابين بقدرة الروائي الجنديل على قوة السبك ,وربط الموضوعات , والحبكة القوية في تصارع الأحداث التي تصل إلى الذروة,وشعرية الكتابة حتى أن المتلقي عندما يبدأ بقراءة الرواية  لا يستطيع تركها للتصوير الرائع , والخيال الخصب, وتسلسل الأحداث, وقوة الكلمات الموحية.

    إن ما يميز الجنديل في رواياته عموما, وفي إمبراطورية الثعابين على وجه الخصوص, ممارسة النقد اللاذع في ثنايا الرواية, وهذه سمة نادرة أن يجمع الروائي ما بين الكتابة,والنقد في روايته نفسها, سلط الضوء في نقده البناء على انحراف الطالبة  الجميلة الملتزمة ,والمحجبة عن طريق صديقتها المنحرفة جنان التي قادتها إلى مستنقع الرذائل , وبيع الهوى ,من اجل وريقات خضر , فنراها تقول: وفي تلك الليلة , فتحت لي جنان حقيبة أسرارها عرضت بضاعتها بطريق ساحرة, أخبرتني بأنها تأخذ بيدي إلى عالم الأماني, وتحقيق الرغبات , وعند مغادرتها هجرني النوم , وبقيت مع أحلامي حتى تنفس الصبح ,بعد يومين ظهرت جنان ثانية , أخبرتني بتجهيز نفسي فثمة موعد لا يمكن التفريط به, ارتديت ملابسي على عجل , وخرجنا معا دن أن اعرف الطرق الذي ساسلكه معها [6], عندما صرت وحدي في غرفتي , أخرجت الأوراق الخضر التي نثرها على راسي صاحب الرقبة الطويلة, أنها مبلغ كبير يعادل راتب موظف كبير في شهر كامل , نط في راسي سؤال يقول:- من أين لزبائني كل هذه الأموال الطائلة؟ لم أتوصل إلى إجابة مقنعة , فوضعت سؤالي في خانة التأجيل [7]0

    إن آليات تشكل اللاوعي الاجتماعي تتمحور حول ثلاث آليات اللغة , المنطق , المحرمات الاجتماعية , بحيث تقوم هذه الآليات بنقل جميع الأفكار, والمشاعر , والأعمال , والتصورات المخالفة , وغير المستساغة اجتماعيا , إلى اللاوعي       أو اللاشعور , وتمنع وصولها بالتالي إلى الوعي , أو أن تصبح شعورية [8] ,وربما يكون اكبر دليل على ذلك هو ما جاء ذكره للراوية  ساجدة البركان ,وهي تصف النساء اللواتي ترى وراء حشمتهن دعوة صامتة إلى الخطيئة, فكانت مشاعرها تختلط عليها ! ايشفق عليهن ؟ أم يحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك ,وهم يظنون أنهم يمتلكون دجاجة محتشمة في البيت لم يقربها احد [9], فنراها تقول : ارتديت ملابس غاية في الحشمة , واعتنيت بالحجاب , خرجت إلى عملي الجديد ,كانت البناية تتكون من عدد من الطوابق , وتحتل مساحة واسعة من الأرض , وعلى واجهتها رفعت لوحة نقش عليها مؤسسة الزعفران الخيرية , – هل لديك بطاقة المؤسسة؟ تفضلي قهوة حلوة , رفعت راسي لأشكرها , فإذا أنا أمام القصيرة الهزيلة الشاحبة التي وجدتها ترقص في بيت طارق , ضجت عيناي بالدهشة وأنا استعرض ملامحها , وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة تقول بأنها تعرف كل شيء , كان المشهد بكل تفاصيله أمامي , وأنا أرى جسدها منهوبا مستباحا , وكنت في ذلك اليوم لم افعل عملا يضعني في دائرة الدعارة , سوى جلوسي وسط حفنة من السكارى مع جنان [10]

   وهذا الكلام في عمقه , يضي آفة من الآفات الاجتماعية, والعقد النفسية المستفحلة ؟ فحولة الرجل الشرقي تحطمها المرأة الشرقية صمتا ,وفي الخفاء!وكما شكل الجسد الشهوة ,والرغبة في الرواية على لسان الراوية الأنثى ساجدة البركان التي ظهرت في مراحل كثيرة من السرد شهوانية ترغب بكل رجل يلتقي بها , فنراها تقول: دخلنا أنا وسليم إلى  غرفة النوم , وهناك اشتد هياج الثور عند رؤيته اللون الأحمر, تفننت في ترويضه, وعندما سددت له الضربة القاضية تركته يتمرغ في وحل شخيره, وعدت إلى الضيف, كشفت له صدري, وضعت الحلمة في فمه , تحركت شفتاه بلهفة على الحلمة , بدا يرضع بنهم عجيب, خمد صراخه قليلا , انتقلت إلى حضنه, فأحسست بان شيئا بدا يتحرك فيه, ضاعفت الضغط عليه , قلت في نفسي هذا رأس البلاء عند الرجال , بدا يتحرك سريعا , ومع استمرار الضغط والمداراة , ارتجف الأستاذ غالب بقوة , وخرجت آهة سمعتها بوضوح ترافقت مع رجفته أراد كتمانها فلم يفلح في ذلك , تركته مع آهاته , وارتديت ملابسي على عجل , بينما هو أسرع إلى الحمام بكامل أناقته , وعند خروجه كانت نظراته خجلى , لكي يداري موقفه , دفع لي عدة أوراق خضراء[11].

   لقد مارست الراوية ساجدة البركان مهمة النقد الاجتماعي بلهجة لاذعة , وعرضت بعض القضايا الاجتماعية المهمة, والعناوين السياسية الرئيسة على الساحة النقدية من خلال فلسفة الجسد وهي فلسفتها الخاصة تجاه الأوضاع السياسية المزرية من خلال رحلتها و حصولها على شهادة الدكتوراه المزيفة , والتعيين في الدوائر والمؤسسات  الإسلامية  التي تهتم بالنساء, والأرامل من اجل المتعة الجنسية , والتي رمزت  إليها بالحجاب في أكثر من موضع في الرواية, وقد طرحت في بداية الرواية السؤال الأتي – من أين لزبائني كل هذه الأموال الطائلة ؟  وقد استطاعت بعد رحلة شاقة الحصول على الإجابة من صديقتها جنان نفسها, فنراها تقول: أرجوك يا جنان, أجيبيني عن سؤال طالما اشغلني: من أين لهؤلاء كل هذه الأموال الطائلة؟ توقفت جنان عن السير, التفتت إلي وقد تلبسها الجد , ثم قالت بلهجة المعلمة: – انظري من ثقب الباب على بلدك, ستجدين الإجابة هناك, لماذا يتحدث الجميع بلغة الطلاسم , لم اعد أميز بين الخيط الأبيض, والخيط الأسود, لماذا لا يكون الحديث واضحا للجميع ليفهمه الجميع ؟ الكل يخاف أن يسمي الأشياء بمسمياتها, والكل حريص على عرض أفكاره وهي مرتدية طاقيات الإخفاء , مرة سمعت مدرسة اللغة العربية تقول لقد أشار إليها الكاتب من طرف خفي , وبعد الانتهاء من الدرس , ذهبت إليها, وبكل احترام , سألتها :- ما معنى الطرف الخفي, مدرستي الفاضلة ؟ أجابتني ضاحكة: – بعض الأحداث لا نستطيع عرضها إلا من طرف خفي كانت مدرستي تتحدث مثلما تتحدث صديقتي جنان,شكرتها دون أن افقه شيئا من جوابها , ساترك الحياة تمر من طرفها الخفي طالما لا املك القدرة على استيعاب ما يحدث [12].

المراجع:

[1] الجسد في مرايا الذاكرة : د0 منى الشرافي تيم :129 .

[2] ينظر مطارحات منهجية حول الأدب والنقد : 41 .

[3] الايروتيكية  مقال في صحيفة المثقف  : د. وسن مرشد.

[4] رواية إمبراطورية الثعابين : احمد الجنديل : 11 .

[5] م0ن : 12 .

[6] م0ن : 12 .

[7] رواية إمبراطورية الثعابين : 30 .

[8] النظرية النقدية عند اريك فروم : 79 .

[9] ينظر الجسد في مرايا الذاكرة :143 .

[10] رواية إمبراطورية الثعابين : 40 .

[11] م0ن : 34 .

[12] امراطوراية الثعابين : 45 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى