ذئبية الإنسان وعنف السياسات الوحشية

عماد خالد رحمة | برلين

حفلت القصص والأساطير التاريخية ،الحديث عن العنف والحقد والقتل والحسد، والحالات البشرية المستذئبة، وسجّلت الرقم الأثرية وصحائف التاريخ أبرز حالات العنف البشري والسلوكات المستذئبة البشرية. لذا فإنّ إرادة استئصال العنف ما زالت تؤرِّق الباحث في شأن الإنسان ونزعاته، والبحث عن البراهين التي تعتبر تلك الحالات من أصل البشرية ،أو ما يمكن أن يكون طارئاً،بخاصة وأنّ العنف يتنوّع من القتل والتسلط الفردي، وصولاً إلى القتل السياسي المبرّر لغوياً ،والمنظم استراتيجياً وإعلامياً. فقد كتب الفيلسوف اليوناني هيراقليطس قبل نحو خمسمائة عام قبل الميلاد: إنَّ (الحرب هي ربّة الأشياء في الحياة). والفلسفات بشكلٍ عام التي تحدّثت عن (ذئبية الإنسان)، وبيّنت أنَّ الشرَّ متأصِّلٌ فيهِ ،أكّدت أيضاً في الآن ذاته أنّ الشر أو (ذئبية الإنسان) قد تشكلت في ظروف الحروب الأهلية الدامية .كالذي حدث مع الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر، الذي شيّد نظريته السياسية إبان الحرب الأهلية الإنكليزية في كتابه الهام (اللفياثان). نستعيد تلك الرؤى في زمن الرخص البشري وانعدام النواميس والأخلاق السامية، إذ تملأ القنوات الفضائية يومياً أخبارها بالأحداث الدامية وأخبار الدمار والحرائق والظلم والقهر الإنساني، والحال اليمنية والعراقية والسورية والليبية الجارية الآن تعيدنا إلى درس (ارتفاع مستوى الشر) ومدى ذئبيته وتوحشه في الإنسان الذي جعل البشرية جمعاء تقف صامتةً دون حراك أمام هذا السيل العارم من الدماء ،وحالات التوحش والقتل والتهجير.
لقد تم التأكيد من خلال العديد من النظريات الفلسفية التي سنتطرق لها في هذه المقالة ،أنَّ ذروة الشر تكمن وتتمركز في الإنسان ذاته، لطالما سعى الإنسان إلى أنسنة علومه ومعارفه، لكنه غفل عن أنسنة ذاته. والواضح كما سنرى أنّ الإنسان عجز عن ترويض ذاته، وقمة الضعف والعجز أن يتحول الإنسان ذاته إلى خطر على نفسه هو ،قبل اعتداء وحوش الطبيعة عليه.هذه النظرة الذئبية تعيد الإنسان إلى ذاته، وتعيد الإنسان إلى قاعه المتوحش الرابض في أعماقه، إلى حثالته الأصلية اللصيقة في الطبقات الغامضة والجوانية من عالمه الخفي، إعادة إلى ذئبية وحشية مستقرة في باطنه ونسغه الداخلي، يسترها تمثيله اللحائي، واصطناعه المخادع، ويسترها بأعنف أسلحته التي يملكها وهي (اللغة) .
إنه وحده من أطلق على مخلوقات الغابة وكائناتها (وحوشاً)، بينما هو الذئب المتوحش ذاته، وهو المرعب والمخيف الأوّل، وهو الذي بَقَرَ بطون كل كائنات الغابة وأخرج أمعائها، ليقف من أعلى الجبل خطيباً متفوهاً يبعق بأعلى صوته، يضرب بكفيه على رئتيه كوحوش الغابة الغير قابلة للترويض بسهولة، معلناً بفجاجةٍ نهاية عصر الغابة، ودخول عصر تسيّد الإنسان وهيمنته، ليذبح بأفكاره وآرائه، وآلاته الحربية التي صنعها بيديه، شرايين الطبيعة ويقطِّع أوصالها.
الجدير بالذكر أن النصوص الفلسفية التي تلت القرن السادس عشر الميلادي تناولت مواضيع العنف والحالات البشرية المستذئبة ووضعتها على مشارط المعالجة الأخلاقية، التي اصطدمت بما بات يعَرف بـ ( العنف الضروري) الذي أوجدت العديد من النظريات الفلسفية تبريراً له في محاولةٍ منها للوصول إلى ما يسمى (الفردوس الأمني). فقد تم تحميل العديد من النصوص الفلسفية والفكرية الكبرى مسؤولية مجازر عالميّة، حيث جيء بنصوص الفيلسوف الألماني فريدرش نيتشه، وهو قنطرة الفلسفة بين القرنين الـتاسع عشر والقرن العشرين على منصّة الإدانة،ويعتبر نفسه من أهم الفلاسفة المؤثرين في العالم بفلسفته المثيرة للجدل، وهي إدانة منقوصة غير مكتملة لأن الفوهرر أدولف هتلر قرأ (السوبرمان) أو ( الأوبامنشن) أي (الإنسان الأعلى) أو (الإنسان الخارق) الذي ورد في كتابه ( هكذا تكلم زرداشت) وهو واحد من أبرز مفكّكي الفكر الغربي .وهذا تشبيه إلى حدٍ كبير مع رواية (الرجل المضاد للرصاص) بتأويله هو، وعشق الفوهرر أدولف هتلر لنصوص نيتشه الذي تميزت شخصيته بالعدوانية، أو لموسيقى صديق نيتشه (ريتشارد فاغنر)، وتحديداً مقطوعة (ذا فالكيري) التي تتحدث عن خطة الطوارئ الألمانية في فترة الحرب العالمية الثانية التي تهدف للحفاظ على الحكومة الألمانية. ومجموعة لأربع ليالي حلقة (النيبلونج) لم يلغِ فاعلية المنتَج وتعدّد تأويلاته، ويمكن إدراك معاناة النص النيتشوي في دراسة الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز عنه في كتابه (نيتشه والفلسفة) الصادر عام 1962م، أو قراءة الفيلسوف النمساوي رودولف يوزيف لورينز شتاينر في كتابه (نيتشه مكافحاً ضد عصره).
لقد كانت معظم القراءات قد طرحت فلسفاتٍ وأفكار ومفاهيم أخرى لإدانتها بالتهيئة للعنف والتبريرين اللغوي والنظري للقتل، والدفاع عن المستذئبين، مثل نصوص المفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكافيلليمؤلف كتاب ( الأمير)، أو الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، أو الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيغل، وعن الأخير يشنّ الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر جامّ غضبه وحقده ، إذ رأى أن فلسفة هيغل الذي أسس الفلسفة المثالية الألمانية في الفلسفة ليست مؤسسة للحرب فقط، وإنما أسهمت في إشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهو يكتب: (فلسفة هيغل المثالية الألمانية تعهدت بظهور وطنيّة اليمين المتطرِّف، فأطروحاتٍ مثل؛ إنَّ الشعب لا يؤكد ذاته إلا بالحرب ضد شعوبٍ أخرى، وإنَّ فكر الشعوب يجد أقصى تعبيره في الدولة صاحبة السيادة التي لا توجد فوقها أي أخلاقٍ أو عدالة، واعتبار الفرد مجرد أداة في خدمة الدولة الوطنية ومصالحها، وأفكار أخرى أعطت لجورج فيلهلم هيغل مسألة الريادة في إشعال حربين عالميتين مدمرتين، وبالأخصّ الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر). يكتب هيغل: (لا يمكن إنكار الحرب في تطوّر الإنسان وتقدمه)، وهذه الضربات من كارل بوبر لهيغل عالجها بوضوح كبير روني بوفريس الذي يناصر التبرير في الفلسفة في كتابه (العقلانية النقدية عند كارل بوبر) الصادر عام 1972 م .
بقي سؤال العنف والتوحش الذئبي مؤرّقاً للباحث في مجالات الإنسان ونهجه وسلوكياته وهزائمه وأعطاله ، وحين حاول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة أن يطرح نظرية السلم الدائم في كتابه بعنوان : (مشروع للسلام الدائم ) الصادر عام 1795م إنما كان يصرخ بأعلى صوته بوجه العالم أكثر مما كان يعني إمكان وصول البشرية لديمومة الأمن والأمان والسلم. من جهته يذهب الفيلسوف الألماني هيغل أبعد من ذلك في دحض (سلام إيمانويل كانط الدائم)، إذ رأى أن طرحاً كهذا إنما هو (وهم محض). لأنَّ العنفَ ينتج العنف، والفوضى تحرس العنف وتحافظ على ديمومته، والقوّة تولّد العنف بكافة أشكاله، إذ الحروب تحفّزها (فائض القوة والجبروت) التي تتولّد عن قوة السلطة والمال والاقتصاد ودور العلم في تطوير أدوات القتل والدمار وتطوير الأسلحة والقنابل والصواريخ وحاملات الطائرات، وكل الانتصارات العلمية في المجالات العسكرية.
لقد تنبأ مارتن هايدغر من خلال المسرح الأخضر لتجسيد أسس ومبادئ التوحش ما سيحصل في القرن العشرين ، وكنا قد تابعنا حالة النازية والفاشية اللتان تمثلان أبشع تشكيلات الحديّة الوحشية والذئبية للإنسان، بسبب بناء التمييز العنصري المفرط على الفروقات العرقية، بتخصيص وتفضيل الأبيض، وعلى رأسه نوع الجِرمَن والرومان، فإن كل إنسان يمكن أن تدجّن جذور وحشيته وذئبيته، بأصالة الشر المحفورة في عمقه الباطني، التي وضع لأجل كبحها التشريعات والقوانين الناظمة. حيث نجد الباحث في الفلسفة جون ميشال بيسنييه الذي يضع خطاه على طريق علماء المستقبل الباحثين في مجال العلوم اللاشرطية أو المجهرية للبيوتكنولوجيات التي تقرّ بالتطور اللا متوقع للعلوم التقنية، وتعلن عن غرق الطبيعة البشرية، وتنبئ باستبدالها القريب بــ (ما بعد الإنسانية) التي يرسم هؤلاء العلماء خطوطها العريضة. على غرار ما اقترحه عالم الاجتماع ( فانس باكار) إحلال محل السؤال ( من هو الإنسان؟). فقد قال الباحث جون ميشال بيسنييه (كان هيغل يشكك في إنسانية الأفارقة) أي العرق الحامي. والكراهية لعنته، إنها شجرة الكراهية. التي تتناسل عنفاً ووحشية وذئبية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى