الأثر النفسي لمنهج التفكيكية في شعر ما بعد الحداثة (3-3)

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية | ألمانيا

ربما كان أحد أسباب الانتماء عند شعراء الحداثة هومعاصرتهم لمرحلة تاريخية حافلة بالتحديات والانقلابات السياسية، سيطرت فيها تيارات أيديولوجية سياسية تعتمد في فلسفتها على الجماهير ، كالاشتراكية والماركسية ، ولا يخفى تأثير الماركسية مثلا في شعر أدونيس وشعراء المقاومة . لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن هؤلاء الشعراء قاموا بدورهم (وخاصة شعراء المقاومة الفلسطينية) في التعبئة النفسية للأجيال التي تغذت من مداد شعرهم، على اختلاف مدارسهم الإبداعية.
أما شعراء ما بعد الحداثة فهم خلاف ذلك قد سقطوا في أزمة لا انفراج لها من الاغتراب عن الجماهير ، وأحد أسباب هذه الأزمة ولا شك، هو المنهج التفكيكي الذي أغرق الشعراء في ذواتهم، بعد أن منعهم من التركيز على حقائق وجودهم، ومصيرهم، والتفاعل مع الأهداف الواضحة للأمة , وحرمهم من أن يقوموا بدور تعبئة أنفسهم قبل أن يُطالبوا بتعبئة الجماهير. وكيف يتأتى لهم قيادة الجماهير إلى أهداف واضحة وهم يمارسون ضياعهم وتمزقهم وتشظيهم النفسي ؟؟ هذا إن لم نتحدث عن تأثيرهم السلبي المحبط والمثبط للأجيال اللاحقة التي بدأت تفقد بوصلة الانتماء وتنسلخ مثلهم عن الواقع بتأثير عدوى الاغتراب التي تتسرب من نصوصهم .
ولا يمكن للقارئ أن يخطئ في قراءة اللاانتماء وهو يقرأ مثلا ، نص قصيدة (منذ ستة وعشرين عاما) للشاعر سيف الرحبي (12)
فعندما يسأل الشاعر نفسه مستنكرا : ماذا تفعل في هذه البلاد؟ يكون قد رحل عنها قبل أن يغادرها فعليا . فهذه هي مرحلة الانسلاخ التي تنذر بمرحلة الاغتراب .المهمُ أننا موجودون على هذه الأرض.
هكذا من غير أحلام ولا معجزات
موجودون في أرض الله والبشر
ولا يعترف الشاعر بالاغتراب إلا بعد أن يترك كل شيء وراءه ويمضي في رحلته التي يكتفي فيها بأن يكون موجودا ، لينضم في النهاية إلى الذين لا يحتاجون لا إلى قافلة ولا إلى دليل، لأنهم مجرد عمال وكهنة غرقى .
كلّ صباح
حين تستيقظُ من نومك المليء بالمذابح والأحلام
تسألُ نفسك
عاما بعد عام
أمام أرضٍ صمّاء وأرخبيل مغلق،
منذ ستة وعشرين عاماً
ماذا تفعلُ في هذه البلاد؟
ستةُ وعشرون مرّت
وأنت تذرعُ الأفق بقدمٍ مكسورةٍ
ورأس غارق في الجحيم.
بداية الرحلة
ستحلمُ أن هناك مستقراً وكتباً
وربما ثوراتٍ تقلبُ وجه العالم.
فمضيت، تاركاً كل شيء وراءك
عويل أمك على سلم البئر،
الذي ظلّ يلاحقُك في المدن والقارّات،
نظرات أبيك الغاضبة.
مرابع طفولتك بين الجبال والشُهُب.
ميلاد النفط بين عظام الأجداد.
ماضياً وراء ندائك، في ليلةٍ
كانت فيها الرياحُ ثكلى،
فجرَ ليلةٍ مُبهماً.
سيكونُ هناك مستقرٌ
ونساءٌ وثوراتٌ
وفي طريقك عبر الصحراء
رأيت بدواُ أوقدوا نيراناً وكلاباً
دافنين أمتعتهم في الرمل
رأيت المستكشفين يعلّقون خرائط الجزيرة
على رؤوس الأشجار
وآلاتٍ عملاقة، يحسبُها السكاّن
نذيراً بالقيامة.
رأيت الأرض تهتزُ،
كما لو أنها على كفّ عفريت
وجملاً يبتلعُ صاحبه
كما تبتلعُ الصحراءُ العواصف.
بعد قليلٍ ستجتازُ البوادي نحو الأحلام
ستجتازُ حاجز السحرة
ورافعات الحبال الأسطورية.
لكنّ الحافة لا تنتهي
إلا إلى أعماق الهاوية
والصحراء تمتدُ والغبار يعمي الدليل
والقافلة تتلاشى
خريفٌ يمرُ ومدنٌ تتشظّى
كنيرانٍ أخمدتها شهب بين المجرات
وبحارٌ تموتُ بالسكتة.
وأنت تعدُ الأعوام
حالماً باجتياز المضيق
شعرُك يغزوه الشيبُ
وجسدُك يتلوّى من ألم غامض
كأنما رياحٌ هوجٌ قذفت أحشاءها
في أعماقك
ترنو إلى نجمٍ شاحب وسط سماء قفرٍ
تتقاطرُ في مراياها
النساءُ والوجوهُ والأصدقاء.
أيُ الأماكن كان مستقراً
أي طفولةٍ كانت لك؟
وبأيّ زمن رميت سهامك
في عيون الفجر.
فسقطت عصافيرُ الأبديّة.
لا تتذكرُ شيئاً
لا تنسى شيئاً
مشدوداً إلى وتد الجبال
تمشي مغمض العينين
في طرقاتٍ مليئةٍ بالذئاب.
كم مرةً نمت في محطّات القطارات
كم مرّةً تقاذفتك أيدي البوليس العنصريّ.
في غرف باردة،
مع غرباء مثلك؟
ربما حصل ذلك في زحمة الكواكب
حيثُ الأفعى أفاقت بعد نومٍ طويل
لتلتهم الجَنّة
وتلتهم احتمالات العودة.
قلت لا بأس
المهمُ أننا موجودون على هذه الأرض.
هكذا من غير أحلام ولا معجزات
موجودون في أرض الله والبشر
الأرض.. يكفي أنها تتسعُ لسريرٍ وقبرٍ،
وبينهما ضحكةٌ سوداء.
ولكن قبل ذلك
هناك طرقُ طويلةٌ تفضي إلى ظلمةٍ
تنفجرُ منها مياهٌ وبساتين
في قلب كلّ بستانٍ امرأةُ تعوي من الشبق
وأصدقاء لا تنقصُهم الخيانةُ
والبولُ على الجثث.
يمكنك أن تستريح من عناء الرحلة
وتقطن فندقاً في مركز المدينة
حيثُ في كلَ صباحٍ تجلسُ على الشرفة
تشربُ القهوة والنبيذ
وترقبُ الأحياء والأموات
حشوداً تسحبُ أمعاءها في الأزقّة
وحروباً يستعرُ لظاها في المخيّلة.
أو ربما لا تفكرُ في شيء
عدا فنجان القهوة المزدحم سطحُه بالكواكب
فهناك دائماً في المدينة أو القرية
أو الثكنة
من يقومُ كلّ صباحٍ
ماضياً في طريقه إلى الهدف،
الخمّاراتُ تفتحُ أبوابها
(ترمقُ النادل ينظفُ الطاولات
في الضوء الخافت للعاهرات)
والموظّفون يحتشدون في الساحات والمكاتب،
وكذلك العمّال
والكهنةُ والغرقى
لا يحتاجون إلى قافلةٍ
أو دليل
أما التعالي فهو محصلة ونتيجة طبيعية لحالة الاغتراب والانفصال عن الواقع عند شعراء ما بعد الحداثة ؛ وذلك لأنهم مضطرون لتبرير اغترابهم تبريراً لا يعود بالتهمة عليهم ، لذا فلا بد لا هم من تبرئة أنفسهم أمام المتلقي بإظهار أنفسهم ضحايا للواقع الذي لا يستطيعون التأثير فيه أو تغييره ، ليس لأنهم هم العاجزون أو المتقاعسون أو الراغبون بعزل أنفسهم عن مجريات الأحداث في الواقع السياسي والاجتماعي، بل لأنهم هم السابقون عصرَهم بوعي قضايا الحريَّات، التي لا يعترف بها الواقع ولا يوفرها لهم للتعبير عن حضورهم المتميز والمتفوق . فهم يمثلون حالات نبوغ إبداعية نادرة الوجود من حيث تجاوزهم كل ما هو نمطي وتقليدي في ارتياد الصورة الشعرية وابتكار ما هو غير معتاد في التعبير والتخييل ،وهو ما تقصِّر مجتمعاتهم ومؤسساتها الأدبية في استيعابه وتقديره والاعتراف به ، وبهذا التصور النفسي الذي يتقمصونه ويتمثلونه عن أنفسهم يصبحون عرضة لمشاعر الإحباط الذي يشعرهم في النهاية أنهم موجودون في الزمان الخاطئ وفي المكان الخاطئ . بينما هم في حقيقة الأمر يكونون قد أوصلوا أنفسهم إلى نطقة الانقطاع عن التواصل مع أصولهم ومحيطهم وبيئاتهم بسبب استغراقهم في مجاهل عوالمهم الذاتية واقتناعهم الكامل بحقهم في ممارسة هذا الاستغراق ، لأنه ببساطة هو طريقهم الحتمي والوحيد للانبعاث في النص التفكيكي الذي يعيدون انبعاثهم عبر كتابته .
وتتضح لنا ضرورة الربط بين المقدمات والنتائج عندما نعيد قراءة ما قاله الناقد عالي سرحان القرشي عن التشظي والالتئام من منظور منطقي يبرر التشظي والالتئام وفقاً لقانون السبب والنتيجة ؛ فلولا أن التشظي يسبق الالتئام لما حدث الالتئام عبر الكتابة . والالتئام هو غاية الكتابة الإبداعية.
وهذا يعني أن الشاعر ما بعد الحداثي ووفقاً لمتطلبات الفلسفة التفكيكية مضطر ومجبر ومرغم على ممارسة التشظي، فهو يختار تحطيم روابطه النفسية التي تربطه مع القيم اختياراً حتمياُ كي يتاح له ممارسة الالتئام عبر فعل الكتابة . وهو مضطر لتدمير نفسه وتغريبها عن واقعه كي يتاح له بعث هذه النفس وتشكيلها من جديد في نصه عبر فعل الكتابة الإبداعية .وهو ما يبرر حقا تمسك هؤلاء المبدعين بمعاناتهم ومزايدتهم عليها ولا أرى في هذا إلا غاية التناقض والاهتزاز في الحالة النفسية التي تسود في شعر ما بعد الحداثة .

تأثير نفسي إيجابي للتفكيكية

إن الأثر الإيجابي الذي لا ينبغي إهماله للمنهج التفكيكي هو الذي انعكس على الأدب النسائي خاصة، لأنه سهّل للمرأة العربية التعبير عن نفسها وعن أزماتها النفسية في ظل الكبت والقمع الاجتماعي السائد في بعضالبيئات الاجتماعية، بأسلوب يحميه الغموض وتحرسه الرموز.
يتحدث القرشي في كتابه (أسئلة القصيدة الجديدة ) (8) عن تجربة المرأة المميزة في النص الشعري السعودي الحداثي ليؤكد أن المرأة السعودية قد خرجت عن الشكل الشعري التقليدي لتجرب فيه أدواتها وطاقاتها التعبيرية من جهة ولقناعتها بضرورة التجديد من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أننا نقرأ في نص لفوزية أبو خالد رائدة(13) قصيدة النثر السعودية إشارات تدل على اهتداء النساء بإرث شهرزاد وزرقاء اليمامة ، إلا أن هذا الاهتداء لم يأت إلا في الحلم الذي تحلم المليحة بالابتداء به . وبما أنه مجرد حلم، فإن الكلام يبقى كلاما، وستنقض النساء في الصباح غزل المساء .
أيُّ فردوسٍ انسَلَّ منه النساء
وسكبنَ السَّرابَ
على….
سُبات السابلة؟
نُهرِّب ماءَ السماء في سواد المساء
نُقطِّر شمساً نحاسيّةً على شحوبِ الصحراء
نشكّ الأصابعَ بماسِ العسيب
أيّ نعاسٍ يغالب صحوَ الصبايا؟
نستمطر القلبَ أشواقاً حييّةً ورحيقاً يفور
نستمطر الوقتَ عمراً وصبراً جميلْ
نستمطر الطرقاتِ..
وطناً
يبدّد الوحشةَ المشتركَة
أيُّ رياح تُخاطف الأشرعة؟
نُمازج الطوفانَ بأطياف تطير
ونُؤلِّف من كل زوجين اثنين
مَهْراً للمُهرة الهاربة
أيُّ قمر علَّقتْه شهرزادُ على ليل اللقاء؟
قلنا اقتربْ
قلنا عصافيرُ تحترق

قامةٌ تُورق

قلنا زرقاءُ تقرأ إشارات المَحاق
غابةُ سِدْر تُشْجِر مُكعَّبات الفراغ
قلنا..
هيّأنا الأَهلَّة للعيدِ
الأكفَّ للحنّاء هيّأْنا
هيّأْنا
عرساً لبلاد
آخيْنا بين القمح والمستحيل

الجرحَ بالملح وَضّأْنا
وهبنا خميرةَ الروح لأجنّة المطلَق
ونقضْنا في الصباح غَزْلَ المساء

الخلاصة
لقد تحكمت فلسفة المنهج التفكيكي في النقد ليس فقط في عملية التلقي والقراءة النقدية عند القارئ والناقد ، وإنما في أساليب إنشاء النصوص الإبداعية نفسها عند المبدعين ، وهو ما تطلب ضريبة ضخمة من المجهود النفسي التابع لاعتناق الفلسفة التفكيكية ، تمثَّل تأثيرها الخطير في شعر ما بعد الحداثة في انتهاج التحلل النفسي الذاتي عند الشعراء ووممارسة التشكيك والاغتراب كطرائق حتمية وضرورية للإبداع .

المراجع
1-الغامدي ،د. سعيد بن ناصر (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها) دراسة نقدية شرعية ط1 ،2003،دار الأندلس الخضراء جدة .
2- ندوة مجلة فصول عن قضايا الشعر المعاصر ، المجلد الأول ، العدد الرابع، يوليو 1981
3 – إسماعيل ، عز الدين : التفسير النفسي للأدب – مكتبة غريب. الطبعة 4، صفحة 22.
4- الحاج ، أنسي عن مقدمة ديوان (لن) ، ط2، المؤسسة الجامعية – بيروت 1982. صدرت الطبعة الأولى للديوان عام 1960.
5 -دنقل، أمل : الأعمال الشعرية الكاملة ، مكتبة مدبولي ، القاهرة
6- التيارات النقدية الجديدة ، وردة مداح ، (2010-2011) التيارات النقدية الجديدة عند عبد الله الغذامي ، رسالة ماجستير ،جامعة العقيد الحاج لخضر / الجزائر.
7- عطية، د.أحمد عبد الحليم :جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي ، بيروت ، لبنان،ط1 2010
8- القرشي ،عالي سرحان : أسئلة القصيدة الجديدة. صفحة 159 ، الطبعة الأولى 2013بيروت لبنان
9- أدونيس ، الأعمال الشعرية الكاملة
10 – (نظرية الشعر/ مرحلة مجلة شعر – القسم الثاني: مقالات/شهادات/ مقدمات – تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب. منشورات وزارة الثقافة – دمشق،1996
11-الماغوط، محمد (الأعمال الشعرية الكاملة
12- الرحبي ، سيف : الموسوعة العالمية للشعر العربي
13- أبو خالد فوزية ، الموسوعة العالمية للشعر العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى