6 سنوات مضت على رحيل ” سواق الأتوبيس “

بقلم: شوقية عروق منصور


هناك خلاف بين النقاد، هل الفلم السينمائي يعتبر وثيقة تاريخية، أم الخيال ينعكس على القصة والتمثيل والانتاج والاخراج، والسينما العربية خاصة السينما المصرية استطاعت أن تنقل الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية وتعرضها على الشاشة، وكان لها التأثير على مجريات الحياة وتغير الكثير من القوانين والعادات .
لكن الفلم السياسي العربي بقي حبيس الرؤية الضيقة ، حبيس الخوف من الرقابة على المصنفات الفنية والحذف وتغير سيناريو الفلم ، نعترف هناك بعض الممثلين اخترقوا الممنوع وقدموا الفلم السياسي برؤية عصرية، وجريئة، وواضحة، لكن القلائل من هؤلاء الفنانين كانوا يملكون الثقافة السياسية ويلاحقون الأخبار وقضايا الساعة ، وهذه الثقافة انعكست على سلوكهم وخطابهم الى جمهورهم العريض، بل سافروا الى دول عربية ليس تحت شعارات التمثيل بل شعارات التضامن مع تلك الدول، من هؤلاء الفنان الراحل نور الشريف الذي عاش حصار بيروت عام 82 مع الفلسطينيين وكان من المهتمين بالقضية الفلسطينية وربطته علاقة شخصية مع القائد عرفات والشاعر محمود درويش وغيرهم من الفلسطينيين ، وقد زار العراق عدة مرات أثناء الحصار وكان يرأس الوفود المتضامنة مع الشعب العراقي.
الزمان عام 1983 .. المكان مسرح البالون – القاهرة ، وراء الكواليس ، بعد انتهاء عرض مسرحية ( الكلاب وصلت المطار ) التي كان يمثل فيها كان لقائي الأول مع الفنان نور الشريف .. أنا الصحفية العربية الفلسطينية التي تحمل جواز السفر الاسرائيلي.. كان التناقض يبحر في حيرة الفنان الذي وجد نفسه أمام معضلة، عربية وتحمل الجنسية الاسرائيلية .. ومن خلال رسم خرائط الوطن المسلوب ولوعة الكلام ورمي الحروف في موقد النكبة والنكسة .
أخذ يسأل عن المدن العربية، عن حيفا ، يافا، عكا، وعن أحوالنا وحياتنا، وكلما أجبت وتكلمت واستفضت بالحديث يفتح الدفتر الصغير الذي يحمله في جيبه ويسجل عليه ، وعندما أخبرته أن والدي من قرية مهجرة تدعى ” المجيدل” وتسمى اليوم “ميجدال هعيمق” وهو يعمل في مصنع اقيم على أرض آبائه .. طلب مني التروي واخذ يسجل .. وفي نهاية اللقاء قال أنني أوحيت له بقصة فلم .. وبعد سنوات .. في عام 1990 أرسل لي رسالة أكد فيها أنه سيقوم بفلم عن حياة رسام الكاركاتير الفلسطيني ناجي العلي وقد استعان بالمعلومات التي كنت أرسلها له عبر البريد، وأن قصة والدي اللاجيء ما زالت في ذهنه ولن ينساها.
مات نور الشريف .. هل نقول وداعاً “ابن رشد” أم وداعاً “ناجي العلي” أم وداعا “سواق الاوتوبيس” الذي لخص المجتمع المصري بقيمه التي غابت والفساد والسرقة والانانية وفوضى الحكم وسياسة الانفتاح التي قام بها السادات، الاتوبيس كشف عن أمراض المجتمع المصري والبشر الذين تغيروا وتمزيق نسيج الحياة الاجتماعية .. أنه الفنان نور الشريف أو السواق المصري الذي وصل الى قناعة أن سوس الفساد قد نخر كل شيء.. حتى العائلة وعلاقات الأخوة ، أيضاً لم يبق للشرفاء مكاناً في هذا الوطن الذي عبث فيه أصحاب رؤوس الأموال وتجار النظام والمفسدين .
وفي فلم “المصير” جسد حياة الفيلسوف ابن رشد بقدرة فائقة من خلال الحوار وحين أكد أن للأفكار أجنحة تحلق مهما كانت القضبان وكان الحصار صفق له الجمهور الفرنسي في مهرجان ” كان ” ونال الفلم جائزة المهرجان ، وفي فلم “ناجي العلي” استطاع عبر تجسيد شخصية رسام الكاركاتير الفلسطيني “ناجي العلي” تمرير رسالة القضية الفلسطينية التي واجهت الصعوبات والعقبات ليس فقط من قبل الصهاينة بل أيضاً من الأخوة .
ومع أن فيلم”ناجي العلي” يُعد من أفضل الافلام التي عالجت حياة شخصية فلسطينية وعربية ، وقد كلف انتاجه اموالاً طائلة ، لكن تم منعه في عدة دول عربية – خليجية – بحجة التطاول على هذه الدول ، مما أدى الى الخسارة الفادحة ، وبقي مخرج الفلم عاطف الطيب في حالة اكتئاب حتى توفي ، وقد أتقن نور الشريف دوره واتقن اللهجة الفلسطينية ولم يشعر المشاهد بتأثير اللهجة المصرية .
حين سألته كيف قبلت المشاركة بفلم “الكرنك” الذي فتح الباب على شتم ومهاجمة وادانة الزعيم عبد الناصر والفترة الناصرية وأنت الناصري حتى النخاع، وصاحب المواقف السياسية المشرفة والثوري الذي يدافع عن حق الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية؟
تردد .. ثم قال : الفنان مثله مثل باقي البشر يرتكب الأخطاء .. وأنا أعترف لو سمح لي بحذف بعض من أفلامي لحذفت هذا الفلم ..!! اعتراف نور الشريف أذهل الحضور .
كان ذلك خلال ندوة عن الفلم السياسي في إحدى قاعات معرض الكتاب الدولي عام 2008 ، اعترافه بأن الفنان الملتزم يجب أن لا يخطىء ويجب أن يبقى على موقف ثابت لأنه يجب أن يكون القدوة ، وهو شاهد على التاريخ ، وعلى المرحلة .
وآخر لقاء كان بيننا .. ضحك عندما رحبت فيه قائلة (أهلاً يا حاج متولي) وسألته الم تقل لي سابقاً أن العمل الفني يجب أن يلتزم بالقضايا الحياتية والاجتماعية، أنت في مسلسل (عائلة الحاج متولي) فتحت النوافذ والأبواب على قضية تعدد الزوجات بطريقة تدفع الرجل للزواج دون الاكتراث بزوجته واولاده، وأعرف أن عشرات الجمعيات النسائية قامت بمهاجمتك ووضعك على لائحة الاتهام أيها الرجل المغرور .
أجاب .. أنا ضد تعدد الزوجات .. وحياتي الشخصية تثبت حتى بعد طلاقي من الفنانة بوسي لم أتزوج غيرها ، لكن الفنان يجب أن يقدم الشخصية التي تعيش بيننا في المجتمع ، ومتولي موجود ، يتزوج ويطلق وهذه لم تعد ظاهرة عابرة بقدر ما هي ظاهرة مقلقة .
رحل نور الشريف بعد أن منح الفن 170 فلماً وعشرات المسلسلات التلفزيونية والاذاعية ، وحين وضعوا أفلامه (العار) و(سواق الأوتوبيس)و(كتيبة اعدام)و(حدوثةمصرية) في أفضل مئة فلم مصري شعر أن رسالته وصلت .
مات (آخر الرجال المحترمين) حيث قام الراحل نور الشريف في هذا الفلم بتجسيد شخصية المدرس الذي ذهب في رحلة مع التلاميذ الى القاهرة ، حيث تضيع أحدى التلميذات ليكتشف خلال البحث عنها مدى تغلغل البيروقراطية والفساد في أجهزة الدولة وأولها الشرطة .
ذهب الجسد.. رحل الحضور والتألق ..وما زال على الشاشة البيضاء هناك نبض صور ووجوه متعددة وحكايات كثيرة .. هناك على وقع خطوات الغياب يتمدد في الفضاء اسم “نور الشريف” فناناً متميزاً في زمن يتراخى ويتهدل ويودع الزمن الجميل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى