” برهمة” ” أور “.. أبشع ما تفتقت عنه قرائح مزوري التاريخ

فضل خلف جبر |  العراق- أمريكا

ما لم يتوفر كشف أو قرينة أو سجل آثاري رافديني أصلي يدرج أو يتحدث عن أو يشير إلى أو يؤكد أن بقايا “التكوين العمراني” الذي يتربع على مساحة واسعة من الأرض القريبة من زقورة أور؛ تبقى “الجدلية الإبراهيمية” قائمة أو، لنقل، مستمرة على ما درجت عليه الأمور الى ما لا نهاية.

فوجود عدة “نسخ” إبراهيمية متداولة يعقد مهمة الباحث عن الحقيقة. فهناك نسخ “تاريخية” عربية مستقاة، على الأغلب، من الإسرائيليات، وهي قريبة الشبه للرواية “الدينية” التوراتية التي تدرج شجرة نسب إبراهيم.

لكن حتى في النسخة “الدينية” هناك اختلاف في الشخصية المشار إليها اختلافا جذرياً، حين تتم المقارنة بين النسخة “التوراتية” و”القرآنية”، من حيث الأداء العقائدي والأخلاقي لكل من الشخصيتين، ما يقترح بقوة اننا إزاء شخصين مختلفين.
فالنسخة “التوراتية” تؤرشف لإبراهيم، بكثير من التفاصيل الشخصية، كرأس عائلة أو شيخ عشيرة نازحة. لكن هذه الأرشفة “التاريخية” تجعلنا في حيرة من جهة كيفية التعامل وتقبل شخصية إبراهيم، فقد اجتمعت في الرجل الكثير من “النقائص البشرية”، مما يجعله أكثر قبولاً كشخص عادي لا كنبي ذي رسالة سماوية، وفق الطرح القرآني، الذي لا يدخل في التفاصيل الشخصية لإبراهيم.

وعطفاً على ما سبق ذكره، فمن توفرت له فرصة الاطلاع على البناء، الذي يشار إليه على أنه “بيت إبراهيم”، وهو بناء فخم رمم حديثا، يدل، بما لا يقبل الشك، أن ساكنه كان ذا مقام مرموق ضمن النسيج الاجتماعي والديني في حينها؛ نقول يعجب أو نعجب كيف يمكن لشخص توفرت كل ظروف الرخاء والوجاهة الاجتماعية له ولعائلته، أن يترك كل ذلك خلف ظهره وينزح في بلاد كثيرة وصولاً الى مصر، ليقدم زوجته للمصريين على أنها “اخته” تودداً لهم وكسب قبولهم له في ديارهم، ومن ثم ليتزوجها “الفرعون” المصري بسبب جمالها، كي يكسب إبراهيم المال والجاه والحظوة بسبب “مصاهرته” للملك. لكن الأمور سرعان ما تتغير بعد أن يعرف الملك الحقيقة وهي أن “سارة” هي زوجة إبراهيم وليست اخته.

فيطرد إبراهيم من مصر بسبب هذه “الجنحة” الأخلاقية، حتى وفق المعايير الأخلاقية لذلك الزمان. من هنا، بدأت سلسلة متواصلة من هذه “الجنح” الأخلاقية التي تدرجها الرواية التوراتية، بدء من طرد إبراهيم لابن أخيه “لوط” بسبب المنافسة والصراع على الماشية والمراعي، الى طرد زوجته “هاجر” هي ورضيعها “إسماعيل” بتأليب من زوجته “سارة” وغير ذلك من الأمور المستهجنة التي لا تنسجم مع التصور والسياق الأخلاقي لمفهوم النبوة.

وكون إبراهيم مولوداً في “أور الكلدانيين” لا يعني بالضرورة أنه ولد في ذلك البيت أو عاش فيه أو تملكه. ذلك يشبه قولنا ان فلاناً ولد في “بغداد العباسيين” أو “قاهرة الفاطميين”. فمن الواضح أن هناك سياقاً جغرافياً-تاريخياً، لكنه، قطعاً، لا يدخل في تفاصيل تحديد مكان بذاته.

كذلك، كون أور مركزاً دينياً للكلدانيين، في فترة نزوح إبراهيم، لا يجعل منها مركزاً روحياً لديانات “توحيدية”، وعليه، فليس هناك من سبب وجيه يدعو اتباع الديانات “التوحيدية” الثلاث الى الحج الى أور أو الصلاة على أرضها بنيّة التعبد أو التقرب الى الله.

ومسألة مقارنة أور بمكة لا تستقيم مع المنطق السليم، فاذا كان إبراهيم، وفق الرواية القرآنية، نزح من أرضه، لأن قومه يعبدون الأصنام والكواكب، ليؤسس، بعد رحلة طويلة متداخلة، مركزاً عبادياً يعكس عقيدته المختلفة، متمثلاً بمكة، فمن باب أولى أن يحج أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية الى مكة، أسوة بالمسلمين، بدلا من أور، كمركز جذب روحي.

إن خطورة “برهمة” أور تأتي من إمكانية الموائمة مع فكرة التبرك ب”الصليب”، وفق التقاليد المسيحية. فالتبرك بالصليب، من قبل أتباع السيد المسيح لا يدل على تقديس “آلة الصلب” بذاتها، انما التبرك برمزية “الصليب”، الذي عليها وهو تمثيل جسد السيد المسيح نفسه، والتذكير بآلامه ومعاناته خلال عملية الصلب (لمن يشكل عليه التداخل اللغوي، نقول: صليب، على وزن فعيل، وهي اسم مفعول للفعل: صلب، فالرجل مصلوب وصليب مثل مقتول وقتيل، ف”الصليب” هو من وقعت عليه عملية الصلب).

وتأسيساً على ذلك، نخشى أن يتم تكييف وموائمة الفكرة أو المعتقد ذاته لجعل أور “صليباً” ثانياً، من خلال الحج إليها للتبرك ب”بيت إبراهيم” والتذكير بآلامه ومعاناته خلال عملية “الحرق”، مسيحياً، والتأسيس لفكرة “محرقة” ثانية، يهودياً!

من غير المنطقي اسقاط قناعاتنا وتصوراتنا الدينية والعقائدية على عالم قديم لا نعرف عنه لحد الان الا القليل، ناهيك عن تحويل السرديات الغيبية الى يقينيات.

على أن أبشع ما تفتقت عنه قرائح مزوري التاريخ هو اختلاق فرية أن “انخيدوانا”، ابنة سرجون الأكدي وذات المقام الكهنوتي السامي والشاعرة التي تحمل مجد أنها اول مؤلف يدون اسمه الصريح على قصائده/ها؛ نقول إن مزوري التاريخ يزعمون أن انخيدوانا ربما كانت هي نفسها “سارة” زوجة إبراهيم، وهو ما يروج له مؤخرا، والمقصود واضح من هذا السعي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى