مقال

استعادة النصّ المسماري إلى الضاد بين الأمانة العلمية ورهانات المنهج

سِفر العدالة لنائل حنون:

أ د حسين عبيد شراد | العراق

يأتي كتاب (سِفر العدالة) للباحث اد نائل حنون، الصادر عن هيئة الشارقة للآثار، بوصفه حدثًا علميًا لافتًا في سياق الدراسات الحضارية والقانونية واللغوية العربية. لا تكمن أهمية الكتاب في موضوعه فحسب، أي شريعة حمورابي، بل في الطريقة والمنهج اللذين اختارهما المؤلف لمعالجة هذا النص التأسيسي في تاريخ التشريع الإنساني. نحن أمام عمل لا يضيف ترجمة جديدة إلى ترجمات سابقة، بل يعيد مساءلة آلية الترجمة ذاتها، وموقع اللغة العربية في حقل الدراسات المسمارية.

أولًا: كسر الوسيط اللغوي بوصفه موقفًا معرفيًا

أبرز ما يميّز هذا الكتاب هو كونه أول ترجمة عربية مباشرة لشريعة حمورابي من أصلها الأكادي المكتوب بالخط المسماري، دون المرور عبر وسيط أوروبي. وهذه ليست مسألة تقنية، بل موقف معرفي نقدي من تاريخ طويل من التلقي العربي الذي ظلّ، في الغالب، أسير الترجمات الثانوية.

إن تجاوز الوسيط الأجنبي يحرّر النص من تراكمات التأويل الغربي، ويعيد فتحه على إمكانات القراءة العربية، لا بوصفها لغة ناقلة، بل لغة مفسِّرة ومؤوِّلة. بهذا المعنى، يضع حنون عمله في قلب سؤال طال إرجاؤه:

هل العربية قادرة على أن تكون لغة أصل في قراءة النصوص المسمارية؟
ويأتي (سِفر العدالة) جوابًا عمليًا لا تنظيريًا.

ثانيًا: الترجمة بوصفها تحليلًا لا نقلًا

لا يتعامل المؤلف مع الترجمة باعتبارها مقابلة لفظية بين لغتين، بل باعتبارها فعل تحليل لغوي ودلالي. فالنص المترجَم مصحوب بشرح للمفردات، وبيان للبنية النحوية، وتوضيح للسياق الحضاري الذي تشكّل فيه القانون. هذا المنهج يجنّب الترجمة الوقوع في فخّ التبسيط أو الإسقاط المفاهيمي المعاصر.

غير أن هذا الخيار المنهجي، على أهميته، يضع القارئ غير المتخصص أمام نص كثيف علميًا، يتطلّب جهدًا في المتابعة. وهنا يمكن تسجيل ملاحظة نقدية مفادها أن الكتاب، وإن أعلن انفتاحه على غير المتخصصين، يبقى في جوهره موجّهًا إلى قارئ يمتلك حدًّا أدنى من المعرفة اللغوية أو الاهتمام الجاد بتاريخ القوانين.

ثالثًا: شريعة حمورابي خارج الأسطورة الاستشراقية

يُحسب للمؤلف أنه لم يقع في إعادة إنتاج الصورة الاستشراقية لشريعة حمورابي بوصفها(أول قانون مكتمل) أو (معجزة تشريعية)بل يقدّمها ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي، كوثيقة قانونية تعبّر عن بنية سلطة، وتدرّج اجتماعي، ومفهوم للعدالة مشروط بزمنه.

تُظهر الترجمة، كما يقدّمها حنون، أن العدالة في النص الحمورابي ليست مطلقة ولا مجردة، بل نسبية، تفاضلية، وتخضع لمنطق الطبقة والمكانة. وهذا التفكيك الهادئ للنص يمنح الكتاب بعدًا نقديًا يتجاوز الإعجاب السطحي بالحضارات القديمة.

رابعًا: العربية والأكادية… مقاربة لغوية جريئة

من أهم أطروحات الكتاب تأكيد المؤلف على التقارب البنيوي بين العربية والأكادية، صرفيًا ونحويًا ومعجميًا. وهذه المقاربة، وإن كانت معروفة في اللسانيات السامية، فإن توظيفها التطبيقي في الترجمة المسمارية يظل نادرًا في الدراسات العربية المعاصرة.

لكن هذا الطرح الجريء يحتاج، في بعض المواضع، إلى نقاش أوسع مع آراء مخالفة في اللسانيات التاريخية، حتى لا يُفهم على أنه حسم نهائي لمسألة ما تزال مفتوحة للنقاش العلمي. ومع ذلك، يبقى فضل الكتاب في أنه نقل هذه المسألة من التنظير إلى التطبيق.

خامسًا: القيمة المعرفية وحدود العمل

لا يدّعي (سِفر العدالة) أنه قراءة نهائية لشريعة حمورابي، بل يقدّم نفسه بوصفه فتحًا علميًا أوليًا يهيّئ الأرضية لأبحاث لاحقة. ومن هنا تتجلى قيمته الحقيقية:
• في إعادة الاعتبار للعربية لغةً للمعرفة القديمة.
• وفي كسر التبعية المنهجية للترجمات الغربية.
• وفي فتح باب الدراسات القانونية المسمارية أمام الباحث العربي من داخل لغته.

أما حدوده، فتتمثل أساسًا في كثافة الطرح، وضيق الحيّز المخصّص للمقارنة مع ترجمات عالمية كبرى، وهو أمر مفهوم بحكم طبيعة المشروع، لكنه يظل مجالًا قابلًا للتوسيع في أعمال لاحقة.

يمكن القول إن(سِفر العدالة)ليس مجرد كتاب مترجَم، بل مشروع ثقافي معرفي يعيد طرح سؤال اللغة، والوسيط، والهيمنة المعرفية في دراسة النصوص المؤسسة للحضارة الإنسانية. وهو كتاب لا يُقرأ بوصفه منجزًا منتهيًا، بل بوصفه دعوة مفتوحة لإعادة بناء علاقة العربية بتاريخها العميق، خارج الاستهلاك والاحتفاء الخطابي.

إنه عمل يستحق النقاش، والاختلاف معه أحيانًا، لكنه قبل كل شيء يستحق التقدير؛ لأنه قال ما يجب أن يُقال، وفعل ما طال تأجيله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى