رسائل إلى حضرة الفاضلة «ع» (2)

بسَّام الشاعر | مصر – الجيزة

كُليْمَة.. في البدء

لا يضاهي جمالَ الطبيعة شيء غير رسالة ممن نحب! فما أجمل الرسائل! وما أجمل أن ننتظرها ممن نحب! وما أجمل عد اللحظات في ترقبها! أن يكتب إلينا بعضهم يعني أن ينقل إلينا شيئًا من نبض قلبه! أن يطلعنا على بعض ما في نفسه! أن يزيد توغلنا داخله! إن جمال الرسائل يكمن في صدقها، وفي هذا الشوق الذي تحمله! وفي تلك الطريقة التي تُقال بها كلمة الحب بمعانٍ متعددة! فاكتبوا إلى من تحبون، وأسعدوا من تحبون! ولتحفظوا بينكم أبدًا الرسائل!

أما هذه الرسائل…

فهي ليست وليدة خيال صاحبها، وإنما هي رسائل حب طاهر طهر ماء عيون الجبل التي لم تصل إليها يد أحد، نبع من قلب فياض واتجه منحدرًا كالجدول إلى قلبها العظيم، إلا إنه حب ككل قصص الحب الجميلة؛ كُتب عليها ألا تكتمل، وحتى لا يكتب عليها النسيان كما كتب عليها ألا تكتمل، كانت هذه الرسائل!

حضرة الفاضلة «ع».

إليكِ مِنَ السمَاواتِ العُلَىٰ سَلامٌ أسمىٰ ورَحْمَةٌ ترِفُّ حَوْلَ رُوحكِ العذبة..

أخبرتُكِ قَبلُ أني عقدتُ العزمَ على زيارة مسجد سيدي عمرو بنِ العاص( )، وقد نزلتُه في شهر آذار المُفارِق مع صديقي الشاعر الطروب( ).. قصدنا يومها المسجد تدلفُ بنا الأقدام في شوارع مصر القديمة، أعيننا معلَّقة بشيء بعيد كأنما ترقب خبرًا من الغيب، في القلب شعور يشبه حنين مُحِبٍ بَــانَ عنه إِلفُهُ بعد أنْ تناسمتْ روحيهما وهمس القلب في القلب، وللقلب من الوَجِيبِ ما يدل علينا من بعيد.. يا له من يوم يا «ع»! كأنكِ بي ترينني سائرًا في فترة من التاريخ قد نسيتها الأيام وراءها وهي ترتَحِلُ، ثم بَقِيَتْ تنتظرني أنا وحدي لألقاها كذلك وحدي، لا أخفيك يا «ع» إن فتنتي جُعِلتْ في أمورٍ غير تلك التي يَفتَتِنُ بها السوادُ الأعظم من الناس، وأنا -حقًا- أَخِيذُ فُنونِ حضارتنا الإسلامية! أراها فأقعُ في أسرٍ لا فكاك منه، أجد لها بنفسي أثرًا عجيبًا كأنه بَعضُ نَفْثِ هاروت وماروت ببابل! كم هو شعور عجيب يا «ع»! أرى تلك الفنون التي تصنع من الحجر عشقًا؛ فتجعلكِ تنظرين للحجر الجامد الخشن لتجدي به الرقة تنوس لها نفسُ الطروب. وترجع بي الأيام لسابق عهدها لأشاهد خيرة عمال الدولة وصناعها الذين صاغوا هذا الجمالَ المُبْدَعَ؛ كلٌّ قد عكف على ركنٍ وطفق يصنع من الزمن مادة المجدِ والحضارة ويجعل من الحجر له خزانة، عجيبةٌ أنتِ أيتها النفس الإنسانية!! أرى تلك الزخارف البديعة وغيرها من خط عربي، و«فُسيفساء» و«منمنمات» و«أرابسك» بهندستها الدقيقة، وبألوانها الضاربة بأطنابها في الحسن؛ فأنظُر لأشاهد ذاك العبقري الذي أبدعها مُمسكًا بأدَواتِه وشرع يطهِّم جدارية بألوان انتزعها من الروح فما تقع في غير الروح، أرى كل هذا يا «ع» فأجد من نفسي ضعفًا كطفل فيه من النبتة النامية لينُها وغضارتُها، وهو لا يزال بعدُ يتعلم الخَطْوَ؛ وقد ركز رجليه في الأرض؛ فإذا بهما ترتجفان فيمشي مرة، ثم يضعفُ وتغلبه قدماه فيعثر مراتٍ، أجدُ من نفسي كل هذا يا «ع» يمرُّ أمامها مرور الديمةِ السكوبِ يراها العَطِشُ الصَّادِي؛ فيفزع يتلقى رهامها بوجهه وكفَّيه وقد بلغ منه الجَذَلُ مَنتَهاهُ.

وصلنا المسجد قُبَيْلَ آذان الجمعة.. وقبل أنْ ندخلَ التففنا حولَه نُحدِّدُ رُسُومَه وكأني أطوقه بشيء من ذاك الحنين الذي سكن قلبي، وآه من ذاك القلب يا «ع»! لن أطيل عليكِ بوصفِ موقع المسجد وسَاحِه المرصوفة بالحجر العتيق، وجُدُرِه الشاهقةِ المُقرْمَدَةِ، وعُمُدِه التي على عدد أيام السنة «٣٦٥ عامودًا»، وذاك المحراب المُذَهَّبِ وهو آية وحدِهِ في البهاء، وتلك اللوحات التي كُتبتْ بالخط الكوفي وجُعلتْ في القبلة، ومئذنة المسجد القصيرة في مدخله والأخرى في طرف القبلة، وصحنه المتسع في المنتصف كأنه روضة من رياض الجنة قد أطلَّتْ على المسجد، وتاريخ المسجد نفسه وما جرى عليه من تغيير، فوصف هذا ونقله من نفسي إلى نفسكِ يُحوِجُنا للرسائل ذواتِ العدد، وأنا أعلمُ الناس بضيقِ وقتكِ، وإني قائلٌ فموجز.. ثم كان أنْ دخلنا المسجد واخترنا موقعًا حسنًا في زاويته الشرقية، أسندتُ ظهري لعمودٍ طُوِّقَ بالرخام، وأخذتُ أجولُ بنَاظِرَيَّ في الجدار أمامي وما فيه من طَاقٍ صُنعتْ لتُدخلَ تلك النسماتِ التي ترف على القلوب مُصرِّفةً إياها، أرقب بناظري السقف وأعدُّ ما حواه من قَنَاديلَ، كنتُ أنظرُ للقناديلِ وقد حوت من زخرف النقش ما يجعل منها دُرًّا يَتَلأْلَأُ، كنتُ أنظر إليها فأجدها تشعُّ فيخيَّلُ إلىَّ أنَّ أرواح العظماء من العلماء والأدباء والشعراء ممن مرَّ بالمسجد منذ الفتح وحتى اليوم قد حَوتْهَا تلك القناديلُ وجُعلتْ في داخلها، فهي مادة نورها ومبعث سناها.

 للمكان قدسية وسكينة عجيبة يا «ع» تجدين فيه هدوء النفس الأول وكأنكِ في إحدى رِياضِ بَرَدَىٰ( ) لا تسمعين فيها غير حفيف أوراق الشجر وترنم العنادِلِ وخَضْخَضَةِ ماء النهر؛ فتهشّ النفس لذاك وتطرب وترق؛ لتجدَ في أغوارها شيئًا بعيدًا رقراقًا قارًا في نهايتها؛ متى ما ظَفِرَتَ به فإن الروح لتهنأُ وتتنعَّم وكأنها صعدت إلى الجنة سُويْعَةً؛ وكانت هذه هي السكينة التي عثرتُ عليها هنالك، ووددتُ يا «ع» أن تري تلك الطفلة الصغيرة التي اصطحبها أبوها معه للمسجد وهي ممسكة بيده، وقد ألبستها أمُّها جلبابًا جميلًا على قدر صغرها، وطوقتها بنصيف عُنَّابِيِّ اللون، فبدتْ كتلك المهاة الجميلة التي أكثر العرب من ذكرها في أشعارهم، كانت هذه الطفلة تسير بجانب أبيها تَخْطُرُ في مشيتها، تُسَارِعُ، فتفلتُ يده وتسبقه ثم إذا بها تجد نفسها صارت وحدَها، وأنها قد خلَّفتْ أباها وراءها؛ فتفزع تجري عائدةً إليه مرة أخرى مُمسِكةً بيده وقد ارتسمت على وجهها الملائكي السعادة والضحك، تعلمين يا «ع» لقد كانت تلك الفتاة الصغيرة تُشْبهكِ إلىٰ حدٍّ ظننتُ فيه أنها أنتِ عُدتِ في صغركِ وطفولتك؛ فإنكِ لا تُعدمين حيلة.. وا أسفي! أعلمُ أنِّي قد أطَلْتُ عَليكِ، ولكنِّي لم أقل شيئًا مما أردتُ أن أقولَهُ لكِ بَعدُ، ولاتزالُ النفس ممتلئة بما أردتُ أن أُخْبِرَكِ به من صفة زوار المسجد، وصفة المقيمين بالمكان من أهله، كنتُ أريد أن أحدِّثك عن البهجة التي رأيتُها في وجوه الجميع هنالك، عن الأبواب، عن السُّرُجِ، عن البئر المطوية التي في المسجد، عن ذاك السوق الصغير أمام المسجد، عن بعض مواقفنا، عن ضحكنا وتبذلنا، عن الصمت أحيانا لاستجلاب الوقار.. عن كل شيء حتى عن الشمس وظلِّها على الجدران، عن الشجر، عن الهواء يمر يلاطف وجوهنا، عن رجل عجوز تأبَّط عصا كنا قد أوقفناه نسأله عن الطريق، عن الكثير حقًا يا «ع»!! ولكني سأعودُ -إن شاء الله- لِأَقُصَّ على رُوحكِ العذبة مرة أخرىٰ، وأبثكِ بعض الذي أجد.

كُونِي بخيرٍ مِنْ أجْلِي يا «ع»، واللَّه يَحْفَظُكِ لِلْأدَبِ ويــَــرْعَـــــاكِ!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى