قراءة في ديوان “أجنحة النهار”للشاعر العماني سعيد الصقلاوي
أ. د. سعد التميمي | ناقد وأكاديمي العراق
دينامية الصورة الشعرية وحيويتها
إذا كان الخطاب الشعري متميزا بكونه مغايرا ومخالفا لأنواع الخطاب الأخرى، فإن هذه المغايرة تعكسها آليات وتقنيات يفرزها الانزياح عن القواعد المنطقية التي تحكم التراكيب لتتحول فيها المعانى المالوفة الى أخرى شعريةتعكس انفعالات الشاعر وتجذب المتلقي ،وأبرز هذه الآليات الصورة الشعرية ،الأداة الفعالة في التعبير عن المعاني المختلفةالتاثير في المتلقي ، وفيديوان(اجنحة النهار)للشاعر المبدع سعيد الصقلاوي نجد الصورة قد اخذت حيزا واسعا في الديوان واتسمتبدينامية وحيوية عاليتين اكتسبتها من الدلالات المحمولة والعاطفة الجياشة التي عبرت عنها ،ففي قصيدة(توجس) التي زخرت بالصور دات الدينامية والحيوية تأتي من تفجير طاقات اللغة، إذ يقول:
متى ياأيّها المطرُ
متي تنهل في الشريان تنهمر
كشلال من السبحات والبركات والانوار ينحدر
متى الصحراء في الوجدان تزدهر
متى الظلماء في الأحداق
يهزم جيشها القمر
فتندحر
متي الحب الذي قد صار يحتضر
سينبت زهرة الأزمان
والأبعاد يختصر
متى الأشواك في الطرقات تنتحر
ويورق فوقها الريحان
والكيذاء والزهر
فاستثمار السياق بشكل متقن افرز صورا شعرية معبرة ومشبعة بأحاسيس وانفعالات الشاعر فتوظيف الاستفهام من خلال الأداة (متی) التي تتكرر سبع مرات، وما حمله من معان مجازية يسهم الانزياح في رسم أبعادها، فتارة يفيد الاستبطاء وتارة يفيد التمني وأخرى يفيد اليأس والشكوى من الواقع بما يتضمنه من هموم وآلام وقد عزز ذلك بالتضاد الذي هيمن على القصيدة ،فالشاعر يخاطب الوطن متغزلا به في عدد من الصور التي يسهم التضاد في تشكيل أبعادها مثل (الصحراء،تزدهر)، و(الظلماء،القمر)، و(يحتضر،ينبت)، و(الاشواك، الريحان)، و(شرق،غرب) و (طول، عرض)، و(الأمس، الصبح) لتمنح الصور دينامية عالية من خلال ما تخلقه من فجوات دلالية وتجعل المعنى يشع بالعاطفة الحية ،بتكاتف اكثر من آلية في تشكيله، وهذا مايمكن أن نراه في معظم صور القصيدة (متی الظلماء في الأحداق يهزم جيشها القمر فتندحر)فالاستفهام صور لنا تطلع الشاعر نحو الأمل والنور من خلال المعنى المجازي الذي يحيل اليه السياق وتأتي المفارقة الدلالية في تعلق (في الأحداق) بالظلماء لتوضح قصدية الشاعر وتزيد من جماليات المعنى وتتوالى المفارقات لتعزز من فاعلية الصور وتناميها لتشكل صورة كلية معبرة وذات دينامية وحيوية عاليتين،كما في اسناد الفعل (يهزم) الى القمر والفعل (تندحر) الى الظلماء فضلا عن اضافة كلمة (جيش) الى الضمير (الهاء) العائد على الظلماء ،واسناد الفعل (تنتحر) الى الاشواك واسناد الفعل (يورق) إلى الريحان والزهر فالمفارقة الاسناد الأول والتضاد بين الاشواك والريحان يجعلان من الصورة أكثر قوة وتاثیرا المتلقي. وهذه المفارقات بما تقوم عليها من استبدالات دلالية تعكس قدرة عالية في التعامل مع اللغة من جهة ، وصدق العاطفة التي عبرت عنها الصورة من ناحية أخرى،جاءتلتجسد عمق الرابطة وقوتهابين الشاعر ووطنه الذي أصبح محبوبة سلبت مشاعره وقصيدة الأولى التي أبحر في أمواج خیالاتها وتجلياتها وقصائده الأخر،فهو عاشق لايجاريه في عشقه قيس أو عمر إذ يقول:
وعطر هواك في الاضلاع
معروق ومبتكر
وملتصق ومنتشر
فلا قيس .. ينافسني
ولا وضاح .. أو عمر
و تبقى الصورة التقنية اأبرز التي لجأ اليها الشاعر في هذا الديوان من أجل التعبير عن المعاني والموضوعات المتعددة وكانت تعزز بالمفارقة و التضاد الذي يغدو المعنی الشعري فيه أكثر جمالية وتاثيرا وهذا ماوجدناه في قصيدة (انتفاضة الصمت) التي يقول في مطلعها:
صوت الوجود هاتف..مدمدم
لن يساموا
دماؤهم لهيب كبرياء
جباههم منائر الإباء
نفوسهم مواكب الفداء
مهما الجحيم وسُّدوا
وشُرِّدوا
وعُذِّبوا
وصُفِّدوا
وحطمت سواعد
وهشمت جماجم
فعلى الرغم من السمة الخطابية والغنائية التي هيمنت على القصيدة ،إلا أن الشاعر استطاع أن يجعل القصيدة طبولا تدق لحن الصمود والتحدي فغدت الكلمات وايقاعها اشبه بطبول الحرب، ولم يستغنِ الشاعر عن التضاد إيمانا منه بأنه تقنية لابد منها للتعبير عن حالة الصراع الذي يتمثل بالحق والباطل وبالظلم والعدل، وهذا ماجعله يختار العنوان بدقة كبيرة باعتباره عتبة للقصيدة ودليلا يرشد المتلقي الى فضائها، ليكون أكثر تعبيرا عمايحمله من مشاعر تجاه هذه القضية، فالتضاد الموجود بين الانتفاضة و (الصمت)يعكس حجم المشاعر التي يحملها ،واذا كان الصمت قد تفجر في العنوان من خلال اضافة الانتفاضة اليه فان صوت الانتفاضة قد هيمن على القصيدة فتجسد في العديد من المفردات والتراكيب والصور ومن ذلك (صوت، هاتف، مدمدم، لهيب،منائر) فضلا عن الصور التي حققتها المفارقات الدلالية وهذا مانجده في اضافة (صوت) الى الوجود والاخبار عنه ب(هاتف) ووصفه بالمدمدم فضلا عن الاخبار عن دماء المقاومين باللهيب واضافة الأخير الى الكبرياء والاخبار عن جباه المقاومين بالمنائر واضافتها الى الاباء والاخبار عن النفوس بالمواكب واضافتها الى الفداء فهذه الصور ذات طاقة دلالية عالية فضلا وشحنات عاطفية صادقة وكبيرة يأتي التوازن النحوي الذي يخلقه تكرار الجمل الفعلية(وسدوا) (شردوا) و (عذبوا) و (صفدوا) ليخلق ضربات متتالية وقوية تعكس حجم الألم من جهة ،والرغبة في الصمود والتصدي من جهة أخرى ،ويهيمن هذا التوازي على القصيدة كاملة لتغدو اشبه بحجارة المقاومين وبحجم الألم الكامل الصدور.
أخيرا لابد من الإشارة الى أن الدينامية الصورة من خلال التضاد والمفارقة كان سمة حاضرة في قصائد الديوان الاثنتين والعشرين.