رسائل إلى السيدة «ع» (3)

بسام الشاعر | مصر – الجيزة

(1)

حضرة الفاضلة «ع».

شوق وتحية لروحك الصافية تلقاكِ أينما تكونين..

كنتُ قد حدثتُكِ أني عقدتُ العزم على كتابة رسائل من ضرب خاص( ) أذكر فيها بعض ما وصَّفتُ لكِ، وذكرتُ كذلك أنِّي متى فرغتُ من الكتابة؛ أرسلتُ إليكِ بنسختكِ الخاصة مدبَّجة بالإهداء الذي أصررتِ عليه. والحق يا «ع» أن الحال لا يسير أحسن سيره، فالذهن يشوبه كدر، والخاطر عليل كأنما نشط لتوه من عِقَالٍ، وبعض القضايا الحادثة لا تكف تطرق عقلي.. ولكني استطعت الانتهاء من بعض الكتابات التي أظنها تعجبك. أعلم أَّنَّكِ صعبة الإرضاء ولكني اجتهدت في تحسينها عسَىٰ أن تُحصِّلَ رِضَاكِ!؛ وإني لمطمئن فما أجمل تلك الــ «عسى» و «لعل» عندما تتصل بشيء من أسبابكِ أنتِ يا «ع»!

أعلم يا «ع» أن الأيام تدور دورتها سريعًا ولا تتوقف، فالزمن لا يعرف السكون، وهو لا يزال يترك أثره على كل شيء حولنا؛ حتى على ضحكات الأطفال وبسماتهم العذبة!! ولذلك سأسعى في الانتهاء من اختباراتي، ثم أنصرف كما وعدتُك مُتفرِّغًا لإنهاء ما شرعتُ فيه.

لا تنسي أن ترسلي لي برأيكِ، وكوني بخير من أجلي يا «ع»، والله يحفظك للأدب ويرعاكِ!

 

(2)

الأديبة الفاضلة «ع».

أكتب إليك هذه المرَّة وأنا في القطار المتجه إلى الشرق؛ من حيث تأتي الشمس، ويأتي معها حلو الثمر وحامضه، ويأتي معها الحياة والموت!

الموت!! هذه الكلمة العجيبة؛ تاج الحياة وسرها الأعظم، ذاك الطِّلَّسْم الأبدي، سكتة الكون الخرساء، ناموس الوجود وبرهانه الأعظم، هذه الومضة الخافتة بين صرخة الطفل وصمت الشيخ، درب المجهول الذي نعرفه ولا ندريه.

أمَا وقد سألتِ؛ فإن النفس في غمِّ وكمد يعوز السنين لقضاء بعضه!! طيور الموت قد جعلت موسم هجرتها إلينا، إنها من حولنا في كلِّ مكان، أعدادها الضخمة تلقي الفزع في القلوب، ترى.. متى يرهقها طول التحليق، أين منها التعب، متى تكفُّ وتسكن!! إنها تبسط أجنحتها الممتدَّة فتسد الأفق وتحجب الضوء، ذاك الضجيج الذي تصنعه أجنحتها لا يقوى عليه السمع، مناسرها فيها بقايا من أرواح الأطفال ومخالبها تقطر منها دماء العجزة( )!

متى ترينها تطيرُ عنَّا يا «ع»، أم أن المقام انتهي بها في هذه الأرض؛ فراقَها لون الدم ورائحته وأنِسَت بما تجدُ؛ فعزمت على بناء أوكارها ثمَّة! وصرنا نحن من الهوان والذلَّة والخور والضعف بدرجة لم نعد نستطيع معها ذبَّ هذه الطيور الخبيثة وطردها، ودحرها.

أوَّه.. إنها فوق ما قال أحمد، وزيادة؛ «حياة عناء وموت عنَا»!

أعلم يا «ع» أنه يجب عليَّ أن أحدثكِ عن الأدب والفن واللغة والدين…، ولكن عيوبنا وهمومنا ليست على النجوم، بل هي في أنفسنا، وإن الوجود كما فيه الوردة غِبُّ الندى والنسمة بُعَيْد الفجر، ففيه كذلك موت تلك الوردة، وتبدد تلك النسمة، فيه العنادل التي تشدو، وفيه الثكلى التي تنوح! ثُمَّ أإذا فزعت الروح ووجلت وألمَّ بها ما ألم؛ أما تحتاج لأن تتبلغ ببعض البوح والبث!!

كوني بخير من أجلي يا «ع»، والله يحفظ روحك العذبة.

(3)

حضرة الأديبة «ع».

سلام على قلبك المثقل بالرحمة..

وددتُ إخبارك أن الكثير من قراء الرسائل بيننا طفق يسأل من تكون «ع» التي تكتبُ إليها؟ وأين هي؟ ولمَ تخفيها، وما وصفها وسمتها؟ وكيف يكون قلمها؟ ولمَ لا تنشرُ من رسائلها إليك، كما تنشرُ من رسائلكَ إليها؟ إلى آخر تلك القائمة الممتدة من علامات الاستفهام، وكنت لا أجد من سبيل في جوابهم غير السكوتِ حينًا، والإقرار بما يتأولون حينًا.. أفعل ذلك ولا أصرح بالخبر؛ وفاء بشرطك الذي أخذتِه عليَّ، ولم يكن ليدور في خلدي أن هذه الرسائل تقعُ من أنفسهم هذا الموقع الحسن إعجابًا وألقًا.

ولو رأيتِ بعضهم وقد أرسل إليِّ يقول: «حضرة الأستاذ.. لا شك عندي أن فضل الأديبة «ع» علينا -القراء- عظيم، فإن لها يدًا بما تكتبُ وبما توحي به إليكَ، وكم أعجب من سيدة كــ «ع» لها سلطان وفتنة على النفس كرقى السحر والتمائم مع أنَّنا لم نرَها، ولعمر الحقِّ إن في سكوتها الفتنة الكبرى، فكيف بها لو تكلمت!». فهل تسمحين يا «ع» بنشر رسالة من رسائلك تتكلمين فيها إليهم؟!

ولو رأيتِ الأخرى وقد كتبتْ إليَّ ولم يسكتْ عنها الغضب بعدُ، ولا أدري لمَ تلك الموجدة! كتبت تقول: «إنك يا سيدي أحمقٌ كبير.. نعم، واعذرني على هذا الوصف؛ ولكني ما رأيت رجلًا كاتبًا مجيدًا متفنِّنًا مثلك يلقي بالدرِّ في الطرقات كرامة لامرأة لا تستحقُّ من المجد شيئًا»، فهل كانت هذه السيدة لتقول هذا إن دبَّجتُ بعض رسالة ألقي فيها إليها سلامًا!! أشكُّ في هذا، وإني ألتمس لها ما يقيلُ قالتها.

هذا غير بعض رسائل أخرى أظنها قادرة على إضحاك الغربان وسط المقابر، والتي إن كتبتُ بها إليك ما تملَّكتِ نفسكِ من الضحك، ولخرجتِ عن وقاركِ بقهقهة عذبة لو وصل صداها آذان أصم قد فَقَدَ سمعه؛ لظن أن الحاسة المعطلة منه قد عادت لعملها إليه وكأنها ما توقفت، ورسائل أخرى قادرة على إبكاء العنادل بالدوحة الفيَّاء، يذكر فيها أصحابها بعض مآسيهم، وكان الله للاثنين وَلي.

أنتظر رأيكِ في مسألة القرَّاء هذه، وأثناء ذلك.. سأطالع رسالة الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها».

كوني بخير من أجلي يا «ع» فإني دائما ما أدعو لكِ.. والله يحفظكِ ويرعاكِ!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى